الاتريك

عتمة الليل وساعاته الطويلة والنيام من الأسر فى سبات آلمتهم اجنابهم واضلعهم من توسد الفراش غداة صلاة العشاء وتناول وجبة المساء وأجواء ليالى الصيف وريحها الجاف والحار واتخاذ اسطح الدور والمنازل وما يتطلبها من أسرة أو دكاك للنوم (كرويتات خشبية) والفرش المريح المكون من اريكة (طراحة أو طوالة) ووسائد قطبية ولحاف وما تحتاجه النومة الهنية بعد جهد وعمل يوم شاق , جدي ووالدي واعمامي يحلمون بليلة سعيدة للاستعداد لنهار جديد ليبدأوا رسالتهم في الحياة , هذا كان الوضع والحال منذ نصف قرن طويت سنينه ومضى بحلاوته وامسياته الجميلة , مكة وأهلها الكرام والمخلصون جيران البيت الحرام , سكان حاراته وشعابه ’ انماط الحياة والعيش يسودها الرضا والقناعة انه المنهج المعهود الذى يعرف به المجتمع المكى. كان أهل مكة يفتخرون بأنهم أفضل الخلائق بنعم مولاهم العظيم عليهم ليسعدوا ببلده الآمن وحماه , استطاعوا بأمر الله سبحانه وتسخيره تكييف حياتهم لمسايرة الزمن الذى هم يواكبونه , وكان من أهم الصعوبات ظلمة الليل وحاجته لضوء يشع ويسطع ويبدد دمسة وسواد الظلام الجاسم فواجهوه واستعدوا له بما كان متوفراً آنها (بالاتريك ) وهو آلة معدنية صنعت لتهيئ وتنير المكان من حولها ولم يكن الجميع في ذلك الوقت يمتلكون الاتريك وانما بعض الاشخاص يعرفون بتواجده بحوزتهم . ومن مستلزماته الاساسية شخص مسؤول وخبير للعناية بالاتريك وصيانته وتعبئته بالكيروسين (الجاز) وغالباً هي مهمة الابن الاكبر في العائلة وقبل الغروب يجهزه ويشحنه وينظفه ويتأكد انه يعمل ومن متطلبات الاتريك توفير البلوف وهو الرأس أو المشعل وعدد من الابر المعدنية لتسليك البلوف كذلك مجموعة احتياطية من الفتايل التي تشعل الاتريك وهي شفافة ورقيقة ودائمة التعرض للتكسير ويتطلب تغييرها بصفة مستمرة وعند الغروب يستخدم الاتريك ويعلق ويرفع فوق الحامل المخصص له ويصدر صوتاً يدل عليه. اداء يومي متعب ومضن ولكن هي الوسيلة الوحيدة في ذلك الوقت . وبنعم المولى وفضله سبحانه وتعالى على عباده اغدق عليهم باكتشاف الطاقة الكهربائية التي غيرت وبدلت سواد الليل لنور يراه ويستفيد منه البشر ولكن لازال الاتريك في مخيلة من يعرف أو سمع عنه من سلفه تراثاً للماضي المغرم والمفتون به يحرص على تواجده لاسيما في مناسبات الاعراس وغالباً ما يكون مرافقاً ومسرجاً برافقة موكب العريس وما أروع عاداتنا وتقاليدنا وتاريخنا العريق الذي نتمسك به ويذكرنا دوماّ بماضينا الجميل . وازدادت شهرة الاتريك وأصبح ينير طرقات المدن والقرى في حقبة من الزمن بواسطة المتعهدين الذين تعاقدوا مع البلدية فصار معروفاً (باتريك البلدية) معلم داخل الحارة والازقة ومطالع الجبال يضيء لأهالي هذه الأماكن طرقاتهم ويسهل لهم قضاء احتياجاتهم وشؤونهم والذهاب لأداء الصلاة في المساجد لصلاة العشاء والفجر وهذا من كرم ونعم المولى عز وجل. وكان المتعهد يلتزم بتأمين الاعداد الكافية والمتفق عليها كما يقوم بتأمين العديد من العماله القادرة على توزيع عدد من الاتاريك وهي اكبر حجماً من الاتريك المنزلي حيث تحمل بواسطة رافعة على اكتاف العاملين ومن ثم يقومون بتثبيتها في المواقع المخصصة لها على الاعمدة وتشد وتربط باحكام وتستمر مضاءة حتى الفجر ثم يعودون لارجاعها لاماكن صيانتها لتعود للعمل في الفترة المسائية من كل يوم .

الندوة 1433/7/19هـ