تراث جميل لشعب أصيل
كان لأهلنا في المدينتين المقدَّستين؛ مكَّة المكرَّمة والمدينة المنوَّرة عادات وتقاليد ومراسم تراثيَّة يُواظبون عليها مع دخول العام الهجري، وإحياء ذكرى المولد النبوي الشريف، ومواسم الحجِّ والعمرة. هذا التراث لا يعرفه كثيرون من شباب هذه الأيَّام
تراث فيه الفخر والاعتزاز بصلة أهالي المدينتين المقدَّستين بسيِّد الخلق. فمهرجان الركب مثلًا، هو تراث شعبي قديم يعود لقرونٍ عديدة مضت. وكان المكاكوة والمداينة يحرصون على إبقائه تقليدًا ومناسبة سنويَّة، تتمثَّل في ثلَّة مختارة من أحياء مكَّة المكرمة بالتوجُّه إلى المدينة المنورةً لغرض زيارة الحبيب المصطفى، وتستغرق الرحلة ثلاثة عشر يومًا. يمرُّون فيها بأمِّ البرك والرصيفة، ثمَّ بئر بخيت، فالمسيجيد والمفرحات التي منها تشاهد القبَّة الخضراء لترتاح معها النفوس وتبتهج. ومن ثمَّ يتسارعون للوصول الى آبار علي حيث يتوقَّفون ليغتسلوا من عناء الرحلة الطويلة الشاقَّة، ويُبدِّلوا ملابسهم بأخرى جديدة معطَّرة تليق بزيارة سيِّد الخلق. ومن هناك إلى عروة، حيث يبيتون ليلتهم، وليدخلوا المدينة المنوَّرة في الصباح الباكر وهم ينشدون: «عسى عسى في كلِّ عام، نوقف على باب السلام، ونشاهد البدر التمام، شفيعنا يوم الزحام». يكون في استقبالهم عند باب العنبريَّة جمهور غفير من أهالي المدينة المنوَّرة. ويتّجهون معا للحرم المدني بمهرجان حافل بالفرح. ويدخلون بيت رسول الله عليه الصلاة والسلام من «باب السلام» ليؤدُّوا واجب السلام على النبي المختار، والصلاة في الروضة الشريفة والدعاء. ومن بعد يتَّجهون إلى البيوت المفتوحة لهم أبوابها ليستقرُّوا فيها ما يُقارب الخمسة عشر يومَا. ومن بعد يقفلون عائدين برعاية الله وأمنه. يقابل هذا الركب ركب مماثل من أهالي المدينة المنوَّرة متَّجهين نحو مكَّة المكرَّمة في وقت الحجِّ ووقت العمرة. يكون اجتماع الراغبين في هذه الرحلة في ساحة المناخة، ثمَّ يتَّجهون لباب العنبريَّة حيث مقر الأمير، فيقفون أمام بيته، ويرتفع صوت مؤذِّن الحرم المدني؛ الشيخ عبدالستار بخاري منشدًا: «هذه الرياحين في طيبة تعتطر، وَذَا السناء بماء المسك يستطر». فيخرج الأمير آذنا لهم بالتحرُّك. ينطلق الركب ومعهم المودِّعون إلى عروة. ومنها، يتابع الركب المسيرة إلى مكَّة المكرَّمة. وطوال الطريق، ليتجنَّبوا الملل، يصدحون بقصائد المديح النبوي حتَّى يصلوا حي كدي في مكَّة المكرَّمة، فيكون في انتظارهم جمهور غفير من المستقبلين، وفِي مقدِّمتهم مزهدهم المكِّي منشدًا: «يا أهل طيبة حيَّا الله مقدمكم لمكَّة الخير أحبابًا وإخوانا». فيردُّ عليه منشد الركب المدني: «يا أهل مكَّة ما هذا الندى العطر! وها هو البيت والأركان تزدهر». وبعدها، ينتقل الركب إلى حوش المداينة، ومنها إلى بيت الله الحرام للطواف والسعي. يظلُّ الركب بضيافة أهالي مكَّة المكرمة مدَّة إقامتهم.
ما أجمل تلك العادات، وذلك التواصل بين أهالي المدينتين المقدَّستين.
نقلا عن جريدة المدينة / 24 نوفمبر 2017م