مقتل القنصلين الإنجليزي والفرنسي.. وبريطانيا تقصف الخاسكية وخرابة القُلل

يكشف اسم (الخاسكية) عن مكانة للمنطقة التي تحتلها في الطرف الجنوبي الغربي لجدة القديمة، وهي مكانة لا تتصل بالاسواق التي تتخلل بهويتها والمقاهي التي تنتشر حولها والحانة التي كانت تندس داخل الاحواش فيها بعيدا عن أعين العابرين على نحو جاز معه ان تسمى قهوة (خبيني). المكانة التي تحتلها (الخاسكية) والتي يكشف اسمها عنها انها الحي الذي كان يسكنه (الخاصة) اي عِلية القوم من مثل كبار المسؤولين والقادة العسكريين والوجهاء والاثرياء من اهل جدة..

ومن هنا جاءت التسمية (خاسكية) منحرفة عن الاصل العربي (خاص) وهي تسمية تركية سميت بها بعض الاحياء في اكثر من مدينة ومنها على سبيل المثال الخاسكية في مكة المكرمة. مع ان الخاسكية كانت تحتل تلك المكانة الكبيرة الا ان وقوعها على الطرف الغربي الجنوبي لجدة، وهو الموقع القريب من ميناء جدة قد جعل منها مكانا معرضَّا لأي اعتداء يمكن ان تشنَّه اية قوة عبر البحر، وذلك ما حدث كثيرا وخاصة في اواخر القرن الثالث عشر الهجري مما دفع الى انتقال «الخاصة» منها الى حارة الشام التي اصبحت هي موقع سكن الخاصة من الوجهاء والاعيان وتحولت الخاسكية الى اسواق ومقاهٍ وان كانت ملكيات تلك الاسواق والمساكن بقيت للاشراف على النحو الذي يكشف عنه شارع قابل للشارع الذي عرف باسمه من الشريف علي وكذلك عمارة الاشراف التي لا تزال قائمة في موقعها بطرف الخاسكية الجنوبي وحوش الاشراف الذي سكنه ابوزيد واسرته وقامت في موضعه عمارة الشربتلي.


وجاء تحول الخاسكية من موقع لخاصة القوم واعيانهم الى اسواق ومقاهٍ ملائما لموقعها قريبة من الميناء الذي تبدأ من ارصفته الحركة التجارية وكذلك من البحر الذي كان العمل فيه يشكل مورد الرزق للغالبية العظمى من سكان جدة، الخاسكية اصبحت المكان الذي يستقطب سكان جدة من البسطاء العاملين في البحر والصناع العاملين في المهن البسيطة من الاثرياء والاغنياء الذين يتحركون بين الميناء والمخازن الكبرى.


ويتوزع اهالي جدة على تلك المقاهي حسب طبقاتهم ووظائفهم، فاذا كانت قهوة (احمد طيره) وقهوة (محمد ابراهيم )هي مقصد الموظفين ورجالات البحر الكبار كالربابنة الميسورين.. فان قهوة (علي يني) يشكل البحارة والعمال الفئة الغالبة بين مرتاديها.

خرابة القُلل
تكشف (خرابة القُلل) عن الوضع المتوتر الذي كانت تعيشه الخاسكية وهو الوضع الناشئ عن موقعها قريبا من البحر.


وخرابة القُلل من حيث موقعها تقع الى جنوب الخاسكية في الموقع الذي انشئت عليه مؤسسة النقد حاليا وامتدت اليه الخاسكية الجديدة واسواقها حاليا.


والقُلل جمع قُلة والقلة هي القنبلة، ومن شأن هذه القنابل ان تضعنا على بداية الفهم لتاريخ الخاسكية، ذلك ان توتر الاوضاع السياسية ووصولها الى حافة الانفجار كان يدفع البوارج الموجودة في البحر والتابعة للقوى الاجنبية وخاصة الانجليزية والفرنسية الى قصف جدة واستهداف منطقة الخاسكية على نحو خاص حيث كبار المسؤولين والموظفين وقادة الجيش. وبقدر ما كانت تلك القنابل والقذائف (القُلل) تصيب منازل الخاسكية فانها كانت تخطئها لتقع في الارض الفراغ التي كانت تقع الى جنوبيها والتي كانت عبارة عن احواش مهجورة، واذا ما سكنت الحرب اتجه بعض اهالي جدة الى تلك المنطقة يجمعون القُلل التي لم تنفجر ويقومون بتفكيكها لبيع ما تحتوي عليه من نحاس ورصاص وحديد.. وجاء اطلاق الاسم (خرابة القُلل) من هذه الزاوية حيث كانت القُلل والقنابل التي لم تنفجر تنتشر في انحائها.

فتنة جدة
قبل ما يزيد على المائة والخمسين عاما بقليل وعلى التحديد في ذي القعدة من سنة 1274هـ، عانت جدة من قصف مركب انجليزي يقف في البحر الاحمر لمبانيها وشوارعها مما اضطرهم الى الفرار الى مكة المكرمة والبقاء فيها الى نهاية الازمة.


تعود أسباب تلك الحادثة، كما يروي المؤرخون، الى ان احد تجار جدة واسمه صالح جوهر اراد ان يبدِّل العلم الانجليزي الذي كان يعلو مركبه في البحر بالعلم العثماني مما اغضب القنصل البريطاني في جدة آنذاك فمنعه من عملية الاستبدال، الا أن صالح جوهر نفذ فكرته فاندفع القنصل الانجليزي وانزل العلم العثماني وداسه بقدمه .. وحين علم أهالي جدة .. بالخبر ثارت ثائرتهم فعمدوا الى مداهمة بيت القنصل وقتلوه ونهبوا بيته وكذلك القنصل الفرنسي وفعلوا ذلك بكثير من الفرنجة المقيمين في جدة وحين علم والي جدة التركي نامق باشا بالأمر - وكان اثناء ذلك في المدينة المنورة، اسرع بالعودة الى جدة وقام بسجن صالح جوهر وعدد من أهالي جدة الذين اشتركوا في الحادث وكتب الى السلطان في اسطنبول يوضح له ما حدث.


وفي شهر الحج من نفس السنة وصل مركب حربي انجليزي الى شواطئ جدة وبدأ يقصفها بالقنابل مما حدا بأهل جدة الى الهرب منها الى مكة وأحدث ذلك فزعاً كبيراً بين الحجاج، وعقد نامق باشا اجتماعاً دعا اليه الاشراف والاعيان من أهل جدة ومكة يستشيرهم فيما يفعله فاقترحوا عليه ان يستشير القبائل لرد العدوان، غير أنه أمر أن يصطحب معه بعض الاعيان الى جدة حيث اجتمع بالقائد الانجليزي واقنعوه بايقاف قصف جدة حتى تصدر أوامر السلطان.


في محرم سنة 1275 وصلت الى جدة لجنة مشكلة من اتراك وانجليز وفرنسيين فوضها السلطان للنظر في القضية والحكم فيها وتنفيذ حكمها.اتضح من نتائج التحقيق ان المحرض على مهاجمة بيت القنصل الانجليزي هو الشيخ عبدالله المحتسب وقاضي جدة عبدالقادر شيح والشيخ عمر باديب والشيخ سعيد بغلف وشيخ السادة عبدالله بهرون والشيخ عبدالغفار باغفار والشيخ يوسف باناجا وكبير الحضارمة الشيخ العمودي.


أصدرت اللجنة حكماً يقضي بقتل عبدالله المحتسب والعمودي كبير الحضارمة ونفي بقية المتهمين، ونفذ الاعدام في المحتسب والعمودي في اوائل شهر ربيع الأول سنة 1275 واعدم معهم اثنا عشر شخصاً من أهالي جدة أدينوا بالمشاركة في اعمال قتل الفرنجة ونهب بيوتهم، وقررت اللجنة صرف راتب من الدولة لابنة القنصل الفرنسي طوال اقامتها في جدة، كما ادانت اللجنة قائمقام جدة ابراهيم أغا والقي القبض عليه وعزل من منصبه. وعلى اثر تلك الحادثة قرر الوالي العثماني أن ينقل مقر عمله من جدة الى مكة المكرمة وبدأ أعيان الخاسكية يفكرون جدياً في الانتقال من الخاسكية الى حارة الشام.

المصدر عكاظ ( السبت 06/10/1427هـ ) 28/ أكتوبر/2006  العدد : 1959