اطلس مكة المصور ط2

ذُروة الابتهاج في "أطلس خرائط مكة" لمعراج

قابلتُه مرةً واحدة في معرض "ذاكرة مكة الضوئية" عام 1431هـ وكان العالِمَ المكي المتواضع في حضوره ، الدقيق في تلميحاته وإشاراته ، الذّوق في حديثه وحواره ، وسعدتُ كثيراً حينما علمتُ بأنه مؤلف أشهر أطلسين مكيين : "الأطلس المصوّر لمكة المكرمة والمشاعر المقدّسة" ، و"أطلس خرائط مكة المكرمة" وغيرهما الكثير من الدراسات الجغرافية والتاريخية المكية العلمية المحكّمة .. ولم أستغرب سِمْتَه ؛ فهي كذلك سِمَات المكيين الكبار مهما بلغوا من علم واعتلوا من مكانة ، أدبتهم مكة بأخلاق أهل الله الذين يعظّمون ما عظّم الله في ظل مجتمع الأفئدة .

لذلك يسترسلُ القلمُ ولا يقف إجلالاً وتقديراً مُستحقاً لذلك الجهد الكبير الذي أنتج هذا الكتاب الضخم الفريد "أطلس خرائط مكة المكرمة" لمؤلفه الدكتور معراج نواب مرزا ، ولعل من ذروة الابتهاج النفسي والاطمئنان العلمي لهذا الأطلس ؛ أنه نتاج بروفيسور جغرافي من أهل مكة الأدرى بشعابها ، يكتبُ عن قُرب ما عاشتْهُ مداركُهُ وخالَطَ روحَهُ من شواهد هذه الأرض المباركة ؛ فهي مطبوعة في وجدانه وكيانه قبل أن تكون رسوماً على الورق للتحليل والدراسة والتحقيق .

طُبع الأطلسُ بَدْءاً عام 1426هـ تحت إشراف هيئة المساحة الجيولوجية السعودية باللغة العربية فقط ، ثم طُبع مرةً أخرى طبعةً جديدة عام 1434هـ عاد فيها الأطلس لحضنهِ الأم جامعة أم القرى بمكة المكرمة ليصدُرَ منها في طبعة مزدوجة باللغتين العربية والإنجليزية ، مضافاً لها بعض الزيادات تمثّلت في : إدراج خريطة توسعة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز للمسجد الحرام والساحات المحيطة به ، وتضمين خريطة جديدة أخرى رسمية لحدود الحرم المكي ، كذلك إضافة أربع صور بانورامية لمكة المكرمة تتماشى مع الفترات الزمنية لخرائط وأشكال الأطلس المختلفة .

يجمع هذا الأطلس بين دفتيه عدداً من الخرائط والرسوم لمكة المكرمة بلغت 130 شكلاً وخريطة ، كان أقدمها في القرن الثاني الميلادي ، وقد غطّتْ فترةً زمنية تمتدّ منذ ذلك التاريخ وحتى العصر الحديث في وجود الخرائط الرقمية ، وقد احتوى الأطلس على بابين كبيرين هما :

الأول : في خرائط ورسوم مكة المكرمة قبل العهد السعودي ، وتضمّن ثلاثة فصول هي : خرائط ورسوم مكة المكرمة قبل القرن الثالث عشر الهجري ، و خرائط ورسوم مكة المكرمة في القرن الثالث عشر الهجري ، و خرائط ورسوم مكة المكرمة في القرن الرابع عشر الهجري .

الباب الآخر : خرائط ورسوم مكة المكرمة في العهد السعودي ، وضم فيه ثلاثة فصول أيضاً : مرحلة ما قبل التصوير الجوي ، مرحلة التصوير الجوي ، مرحلة الخرائط الرقمية .


اشتمل كذلك على وصف دقيق لكل خريطة ورسم وردتْ فيه من حيث مصدرها وتاريخها ومحتواها ؛ بشكل يعطي فهماً ووعياً وافياً لما تحمله تلك الخرائط والرسوم من فكر علمي وتاريخي وحضاري وتراثي لمكة المكرمة ؛ ويجعل من الأطلس مرجعاً علمياً توثيقياً لها .

وقد طبع طبعةً فاخرة بحجم كبير يناسب الأطالس الجغرافية ، وتحت إشراف مباشر من الهيئة الجيولوجية السعودية بفريق علمي متخصص من أساتذة الجغرافيا والخرائط الأكاديميين ومسئولي الهيئة ؛ مما يجعل اقتناء هذا الأطلس ثروةً تاريخية ومعرفية عن البلد الحرام لا تقدّر بثمن ، ناهيك عن المتعة التي لا تغيب مع رؤية كل لوحة وخريطة لمكة المكرمة ومسجدها الحرام وما يجاورها من معلومات قيمة ورائعة بحق .


حقيقةً إن مطالعة خرائط مكة المكرمة عبر الزمن المتسلسل في هذا الجمع الرائع بالأطلس هي قراءة لتاريخ مكة وجبالها وقلاعها وحاراتها وأبنيتها التي لم تخلو تسمياتها من بعض الخرائط ؛ مما يجعل القارئ للتاريخ على وَعْي تام بالمعالم المكية خاصة المحيطة بالحرم المكي الشريف ؛ فتستحضرُ ذاكرتُه تفاصيلَ المكان وتكتمل في إدراكه صورةُ الحدَث وإن لم يحضرْهُ ؛ وهذه روعة ما تقدّمه تلك الخرائط من أبعاد في قراءة الأنساق وتحليل التطوّرات .


وعلى سبيل المثال : مرّ بي في قراءتي لإحدى الروايات المكية التي تدور أحداثها بالقرن الهجري الماضي ؛ مرّ بي ذكرُ "حمّام باب العمرة" وهو مغتسل للمعتمرين والحجاج ، وكان أقصى ما حملتني إليه الذاكرة بابُ العمرة أحد أبواب الحرم المكي الشريف المعروفَة ، وعجزْتُ عن تحديد موقع ذاك الحمّام – تحقيقاً - بالنسبة للباب ؛ حتى اطلعتُ مصادفةً على خريطةٍ "بأطلسِ خرائط مكة" لمصلحة المساحة المصرية عام 1381هـ حدّدتْ بالضبط موضع ذلك الحمّام وسمّتْهُ !

ولعلي أختم بذلك الموقفٍ الذي حصل لي قبل عام تقريباً مع أحد الباحثين الألمان من أصول أفريقية "بمعهد العلوم الشرقية الحديثة" في برلين بألمانيا هو "الدكتور محمد الشنفي" الذي التقيتُه بمكةَ للإجابة على بعض تساؤلاته حول مبحث خاص له حول علماء الحرمين الشريفين من الأفارقة ، وكان متأبطاً كتاباً اشتراه من إحدى المكتبات هو "مكة في القرن الرابع عشر الهجري" للمؤرخ محمد عمر رفيع ، وبآخر الكتاب خريطة إرشادية لمكة بمسميات جبالها وحاراتها وغيرها ؛ فأخذ يسألني عن المعالم المسمّاة بالخريطة وكانت معظم إجاباتي له – حقيقةً - بأن هذه الحارة أزيلت وذاك الجبل أزيل .. وهكذا وهو يشطبُ بقلم "فسفوري" على مسميات الأماكن المزالة بالخريطة ويتنهّدُ أسىً مع كل معلَمٍ مُلغى حتى وصلَ إلى مرحلة قال لي فيها : ماذا بقي من مكة القرن الرابع عشر ؟!

* مِن آخِرِ السّطْر :

أشار شيخنا الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان ( عضو هيئة كبار العلماء بالمملكة ) في محاضرةٍ له قبل عامين إلى حاجة مكة اليوم إلى أزرقي جديد يكتبُ تاريخها بعد التغيرات الكبيرة التي حصلتْ لمعالمها في العقد الأخير من هذا القرن ، وأقول : بأن أم القرى أيضاً بحاجة إلى جغرافيين مكيين يرسمون على أرض الواقع خارطة مكة المُحافِظَة على تاريخها ومعالمها ومسمياتها العريقة وسط كل تلك المشاريع العملاقة التي غيّرت ملامح المكان حتى أصبح أهل مكة لا يَدْرُونَ شِعَابَها ! مُثمّناً في نفس الوقت جهودَ مُبادرة "معاد" للحفاظ على الهويّة المكيّة .

المصدر : صحيفة مكة الالكترونية بقلم أ.حسن محمد شعيب .