الطوافة ( الجزء الثاني )

مهنة الطوافة رحلة طويلة عبر تاريخ الحج الجزء الثاني
 
الانتساب لمهنة الطوافة ..
كانت هناك ثلاث فئات أساسية من المطوفين هم فئة المطوفين , فئة مطوفي الهنود , وفئة مطوفي الجاوه .ولكل واحدة من هذه الفئات هيكل للعمل يتكون من رئيس للطائفة تعينه الحكومة , ومعلم و هو المرشد للحجاج , و الأمين للطا و هو المعاون .أما رئاسة المطوفين فكانت تعتبر السلطة التنفيذية لكل القضايا التي تمس الطوافة والمطوفين .ومع التطورات التي أسست المهنة ووضعت قواعدها و أنظمتها لزم وضع نظام معين ينظم عملية الانضمام لعضويتها . و كان التقليد المتبع طوال فترة الحكم العثماني للدخول في مهنة الطوافة هو تقليد وراثي , إلا أنه يجوز لأحد المطوفين  القدامى أن يهب لقب مطوف لشخص خدم لديه فترة لا تقل عن خمسة عشر عاماً . و يتم منحه هذا الشرف من شيخ الطائفة و من ثم يرفع أمره إلى أمير مكة للموافقة و لإدراج اسمه في زمرة المطوفين وإن كانوا من غير أبناء المهنة أو ممن لم يخدموا بها قط .
 
أجيال مهنة الطوافة ..
دخلت المهنة في طور جديد من الإجراءات التي حاولت تنظيمها و معالجة عيوبها , و من ذلك صدور نظام المطوفين عام 1367هـ . وبعد ذلك  بما يقرب من العشرين عاماً , أي في عام 1310هـ . و بعد ذلك بما يقرب من العشرين عاماً , أي عام 1385 هـ , قرر مجلس الوزراء السعودي تغيير نظام الطوافة بالكامل وحل جميع التقارير . و أدى ذلك إلى حرية كاملة لدى الحاج في اختيار مطوفه كما أعطى المطوف حرية اختيار الزمزمي والوكيل . كما ألغى القرار جميع هيئات المطوفين و الزمازمة و الأدلاء و تبنت مهامهم جميعاً وزارة الحج و الأوقاف و لكن سرعان ما أنتجت هذه الحرية نزعات و مشكلات جديدة , فصدر نتيجة ذلك نظام التوزيع الذي قنن الحرية السابقة بشكل واضح . ولكن السلبيات لاحقت هذا النظام أيضاً مما دعا الحكومة إلى إصدار نظام المؤسسات الحالي و الذي بدأ تطبيقه تجريبياً في عام1400هـ بالمؤسسة التجريبية لحجاج تركيا ثم أضيف إليها حجاج تركيا أيضاً لتعزيز أعداد الحجيج المسجلين لديها .
ولحق هذه المؤسسة مؤسسات أخرى لحجاج إيران , و جنوب آسيا , و جنوب شرق آسيا , وإفريقيا ( غير العربية ) و حجاج الدول العربية . و بذلك تكون المراحل التي مرت بأجيال مهنة الطوافة هي:
الجيل الأول : مرحلة الروحانية المطلقة , مرحلة التخصيص .
الجيل الثاني : مرحلة الانتشار ( التقارير و حلها ) , السماسرة و حرية السؤال ثم التوزيع.
الجيل الثالث : مرحلة المؤسسات .
و كان الهدف الرئيس من إنشاء  هو إيجاد أرضية علمية لرفع مستوى الطوافة وخدمات الحجاج في إطار جماعي منظم . و في هذه المرحلة فإن مزاولة المهنة اقتصرت على أهل مكة المكرمة . و بذلك استكمل إنشاء نظام المؤسسات لحجاج الخارج و صدرت اللوائح الموحدة اللازمة لتنظيم أمور العمل كالأمور المالية و المكاتب الفرعية و الإدارة الموحدة .و قد نجحت مؤسسات الطوافة منذ إنشائها في إيجاد وضع أكثر تنظيماً من النواحي الإدارية و ذلك بسبب مقدرتها الأفضل للتعاطي مع الأعداد الحالية الهائلة من الحجاج. و يقدر أعضاء هذه المؤسسات حسب تقدير الأستاذ فؤاد عنقاوي , بحوالي أثنى عشر ألف عضو 90% منهم توارث المهنة و نصفهم تقريباً من النساء . و بالإضافة للمؤسسات التجريبية الست التي أنشئت , تم كذلك إنشاء مكتب موحد للزمازمة و آخر للوكلاء .
و كما تطور الوضع بالنسبة لحجاج الخارج . فإن الطوافة استطاعت ن تمد قاعدة خدماته لكي تضم أيضاً الحجاج من داخل الأرضي السعودية ( حجاج الداخل ) وقد يتعجب المرء حين يسمع أن بعضاً من أهل مكة يستعين اليوم بمطوف لأداء فريضة الحج .و نشأت من أجل ذلك مؤسسات لحجاج الداخل تقوم بنفس الدور الذي تؤديه مؤسسات حجاج الخارج . و يوجد حالياً ما يفوق ( 464) مؤسسة مرخص لها بالعمل في مجال الطوافة لحجاج الداخل مما يعكس التنافس الشديد داخل هذه السوق.  و يوجد ما يقدر ب 67% من هذه المؤسسات في المنطقة الغربية من المملكة العربية السعودية , فيما يوجد 17% منها في المنطقة الوسطى , و 13% في المنطقة الشرقية و يوزع الباقي بين المنطقتين الشمالية و الجنوبية . و تتفاوت الأجور التي يتقاضاها المطوفون لحجاج الداخل بناء على نوع الخدمات التي يقدمونها و المسكن و قربه أو بعده من المشاعر . فقد يصل السعر المتدني إلى ما يقارب800ريال سعودي للشخص الواحد . ثم يبلغ السعر المتوسط 1200ريال تقريباً , فيما تصل بعض الأسعار المرتفعة إلى قرابة الـ 30 ألف ريال سعودي للشخص الواحد  الذي يتمتع لقاء هذا المبلغ بخدمات ممتازة , و غذاء و سكن بمستوى فنادق خمسة نجوم في مكة والمشاعر المقدسة حيث أن الغرف الفندقية لهذا العقد في منى تبدأ مساحتها من أربعة أمتار مربعة و بها حمام خاص – أكرمكم الله - . و يرجع السبب وراء ارتفاع الأسعار بشكل غير عادي أثناء الموسم , إلى الزيادة غير العادية في السعر الإيجار للمتر المربع في مباني منى و الذي يصل إلى ما يقارب 1500 ريال لخمسة أيام . و على سبيل المثال يؤجر مبنى مساحته الإجمالية 1350 متراً  مربعاً بمبلغ يصل إلى مليوني ريال سعودي في مدة خمسة أيام هي مجمل الأيام التي يستخدم فيها المبنى . و قد تم مؤخراً إزالة معظم هذه المباني القديمة في منى من قبل الدولة , و تعويض أصحابها عن قيمة البناء . أما الأرض , فهي أرض مشاع لعموم المسلمين و ليست ملكاً لأحد . و يرتفع السعر و ينخفض أيضاً بناء على نقاط يجب أن يأخذها الحاج  في حسبانه . فمن النقاط التي يمكن أن تساعد في زيادة الأسعار : النظافة , و النظام و قرب المسكن بمنى من مرمى الجمرات , و توفر الرعاية الطبية ووجود مكيفات الهواء و دورات المياه و الأماكن المخصصة للعائلات و توفر الإرشاد الديني و الجغرافي للمعالم و الآثار .
روايات الرحالة و المؤرخين ..
تمتلئ كتب التاريخ و الرحلات بالقصص التي رواها  كاتبوها أثناء رحلات حجهم في أزمنةو عصور مختلفة , بما في ذلك خبراتهم و علاقاتهم بالمطوفين الذين رعوهم خلال الموسمو منهم المسلمين و غير المسلمين الذين تخفوا في زي إسلامي ليتمكنوا من دخول مكة والمشاعر و ذلك لأغراض تجسسية أو ثقافية وأدبية معلوماتية . و من الذين كتبوا عنرحلاتهم ابن جبير الأندلسي الذي قام برحلته عام 579هـ أثناء سلطة الموحدين علىالمغرب و الأندلس و سلطة صلاح الدين الأيوبي على المشرق , و قد سلك طريق البحر ونزل على ساحل بحر جدة و يقول في وصف دقيق لها  أن بها آثاراً تدل على أنها كانت مدينة قديمة  ذات شأن و ذكر ابن جبير بعضاً من المشكلات العصبية التي كانت تواجه الحجيج في رحلاتهم من جدة إلى مكة و هي من الأمور التي ساعدت لاحقاً في استحداث مهنة الطوافة .
و يذكر الحسين بن محمد الوريثلاني , الذي دون رحلته عن الحج في عام 1179هـ أنه قصد المطاف هو و جماعته لطواف القدوم و يقول في ذلك : كان معي جماعة كثيرة تكاد لا تحصى بهم , علمتهم كيفية الطواف , و لما رأى أهل مكة فعلي ذلك تغيروا و قالوا : ألم تعلم أن أهل مكة لا ينتظرون إلا هذا الموسم ؟ فقالوا طف لنفسك و اترك الناس . فقلت أنا أطوف بهم و أعلمهم و أنتم خذوا الأجر منهم.
كما يشرح الحاج يوسف ( جوزيف بيتس) كيفية استيعاب مكة الصغيرة للأعداد الغفيرة من الحجاج الذين يأتونها في كل عام فيقول : (( و قد يتساءل بعض من عرفوا مكة المكرمة , أو على الأقل سمعوا بها أو قرأوا عنها كيف يمكن لبلدة صغيرة فقيرة أن تستقبل هذه الأعداد الهائلة من الحجاج و تقدم لهم ولدوابهم المأوى و الإعاشة ؟ و إني أجيبك أن أهل مكة المكرمة يخلون أماكنهم للحجاج . فهذا  الموسم بمثابة سوق لهم , فالمكي يؤجر الغرفة في هذا الموسم لفترة  لا تزيد على ستة أو سبعة عشرة يوماً بمبلغ يزيد ثلاث مرات على إيجارها طوال العام . و في الفترة التي وصل فيها الحاج يوسف إلى مكة , لم يكن المطوفون قد بدأوا  بعد مرحلة توفير المؤن للحجاج و دوابهم بشكل كامل حيث يقول : (( أما بالنسبة للمؤن , فالحجاج يجلبون معهم ما يكفي , إلا اللحوم التي تحتم عليهم الحصول عليها من مكة(ثم يذكر الحاج يوسف ما فعله معهم المطوف من لحظة وصولهم إلى مكة , قائلاً :
)و بمجرد وصولنا إلى مكة سار بنا الدليل في شارع واسع يتوسط مكة و يؤدي إلى الحرمثم وجهنا إلى حوض الماء  للوضوء و من ثم ذهب بنا إلى الحرم , ثم  قادنا الدليل مرة أخرى و رحنا نهرول وراءه تارة و نمشي تارة أخرى من أحد طرفي الطريق إلى طرفه الآخر )) يقصد الصفا و المروة .
كما يذكر هذا المنظر بيرتون في رحلته للحج عام 1269م فيقول  : ((  لقد كان الصحنالمحيط بالكعبة  مزدحماً بالرجال و النساء و الأطفال في مجموعات , وكل مجموعة تتبع مطوفاً .. و حتى منتصف الليل جلسنا نثرثر مع المطوفين الذين  أتوا لعرض خدماتهم(
و كان مطوف بيرتون في رحلته غلام من سكان حارة الشامية بمكة أسمه محمد و يدعيه بيرتون في كتابه ( الولد  محمد ) و قد استأجره من القاهرة و دخل به المسجد الحرام و قام  بتأدية جميع المناسك خلفه ثم استضافه في حجرة بمنزل عائلته كغير من الحجاج الكثيرين الذين نزلوا في نفس الدار .و يصف بيرتون المطوفين بأنهم يتقنون اللغات الأجنبية و ذكر من بين اللغات التي كانوا يجيدونها إضافة على العربية , الفارسية و التركية و الهندوستانية , و في نهاية رحلته , يذكر بيرتون أن باعة كثيرين تجمعوا في الطابق الأدنى الذي كان يسكن به , و على الأرجح فإن المطوف يأتي بهؤلاء الباعة في بيته ليبيعوا للحجاج دلالة لثقة بهم و غالباً لقاء نسبة متفق عليها بينهم أو أجر معلوم .
أما محمد بن عثمان السنوسي , الذي زار مكة سنة 1299هـ فيقولل : (( وتلقانا المطوفون فأعلمتهم أن مرادي الدخول على طريق كدا . و طلبت الاستقلال بالسير فيه مع المطوف حسن صباغ و هو غير طريق القوافل المعتاد ( .ثم  يذكر أنه وجد أن أغلب سكان مكة ما بين مطوف و سقاء و بناء و نجار .
أما شكيب أرسلان الذي حج عام 1348هـ فيذكر أن المطوف هو الذي يكفل جميع حوائج الحاج و أغراضه منذ أن يطأ رصيف جدة إلى أن يصعد سلم الباخرة  قافلاً . ثم يستنتج سبب وجودهم قائلاً : (( إن حجاج العرب لا يزيدون على خمس حجاج المسلمين , و الأربعة الأخماس  الباقية هي من أمم تجهل اللسان العربي فكيف يصنع حجاج هذه الأمم بدون المطوفين ؟ (( .
ثم يؤكد رواية بيرتون عن معرفة أهل مكة بلغات عديدة قائلاً : (( و مما يدهش العقل أن المطوفين و المزورين يعرفون جميع لغات العالم , و أكثر يعرفون اللغة التركية , فمطوفو العجم يعرفون اللغة الفارسية , و مطوفو الهند يجيدون الأوردية , و مطوفو الجاوه يعرفون  لغة أهل الملايو ((
كما يقول أرسلان : إن في الحجاز طائفتين لابد لقاصد الحجاز أن يكون له علاقة بهما و لا يكاد يستغنى عنهما , هما المطوفون بمكة و المزورون بالمدينة .
 رحلة إبراهيم باشا ..و في كتاب مرآة الحرمين , الذي يقص رحلة الحج التي قام بها اللواء إبراهيم رفعت باشا عام 1318هـ يذكر عادة أخرى للمطوفين و هي التسويق الخارجي فيقول : (( و من عادات المكين أنهم يقصدون المدينة للزيارة و في ذلك ينفقون ما جمعوه في موسم الحج , إلا قليلاً منهم , يستبقي بعض ما كسبه لينفقه في السفر إلى البلاد التي يفد منها الحجاج ليتعرف بمريدي الحج في العام المقبل و لتفق معهم  على أن يكون مطوفهم )) .و على أغلب الأحوال , فإن ( الولد محمد ) الذي صاحب بيرتون في رحلته كان من هؤلاء .و كذلك كان المؤرخ و الأديب أحمد السباعي الذي جسد الطوافة من وجهة نظر المطوف , في قصة رحلته إلى البلدان الإسلامية بحثاً عن الحجاج و ذلك في كتابه ( مطوفون و حجاج )و بالتحديد في باب يوميات مطوف في بلد الحجاج الذي يرسم فيه , بشيء من التفصيل , صورة واضحة لرحلته و معاناته في مختلف البلاد الإسلامية طلباً و تعقباً لقاصدي الحج و ذلك في عام 1373هـ . و لا شك أن السبب في تغير الأساليب و  الأنظمة للطوافة هو التغير المتواصل للظروف السياسة و الاقتصادية في المنطقة تاريخياً و التزايد المستمر في أعداد الحجيج . و لكل زمان ظروفه , ففي الزمان الذي وجدت فيه خطورة على قوافل الحج من العراق و الشام و اليمن من اعتداءات الأعراب و قطاع الطرق , كانت هناك ( أتوات ) تدفع لشيوخ القبائل التي تمر خلال أرضيتها هذه القوافل لقاء الحماية التي تؤمنها لها القبيلة .و عندما  كانت الجمال وسيلة النقل , كانت هناك مهنة الجمالة و كانت الشقادف . و قد عمل المطوفون على ترسيخ أقدامهم خلال كل تلك الظروف في مهنة الطوافة بالجهد و العراق و السهر و بذل الغالي و الرخيص و لم يكن الطريق أمامهم مفروشاً بالورود و الرياحين .و قد أكسب الحج و الطوافة المكين عامة , و المطوفين خاصة , مقدرة كبيرة للتعامل مع الأجانب و التعرف على عادتهم و تقاليدهم و التحدث بلغاتهم نتيجة الاختلاط المستمر بهم . و يذكر العنقاوي كيف انتدبت الحكومة السعودية في بداية عهدها بعضاً من كبار المطوفين إلى بعض الأقطار الإسلامية لتشجعيهم على أداء فريضة الحج نظراً لما حل في البلاد من أمن و ما زال عنها من خطر  على حجاج . و قد ذكر المطوفون في أول مرسوم  ملكي أصدره الملك عبد العزيز آل سعود – رحمه الله- بعد دخوله مكة و قد جاء فيه : (( كل من كان من علماء أو موظفي  الحرم الشريف أو مطوفين ذي راتب معين , فهو له على ما كان عليه من قبل )) إلى نهاية المرسوم . أما في نظام المؤسسات الحالية فقد وجد الكثير من أعضاء هذه المؤسسات وظائف يشتغلون بها طوال العام في شركات خاصة و مؤسسات حكومية صناعية و تجارية و أصبحوا يعملون في مؤسسات الحج فقط عند حلول الموسم لقاء أجر مقطوع لهم المؤسسة عن عملهم في خدمة حجيج المؤسسة . و الطوافة مرتبطة و ملازمة للحج و ستبقى ما بقي .. تتبدل و تتغير صفتها و أسلوبها و لكن مهنه باقية ما حج مسلم إلى بيت الله .
المرجع بتصريف .. من  مجلة القافلة – أرمكو 
الموضوع من إعداد حبايب مكة / اللجنة النسائية بمنتديات قبلة