حوار مع البروفيسور عبد الله باسلامة

من الصعب أن تستنطق رجلا حييا، تتراجع أمام أدبه مفردات اللغة.. هكذا وجدت نفسي وأنا أستنطق البروفيسور عبد الله باسلامة؛ باحثا عن إجابات لأسئلة متناثرة لرائد ومؤسس وعلم

من الصعب أن تستنطق رجلا حييا، تتراجع أمام أدبه مفردات اللغة.. هكذا وجدت نفسي وأنا أستنطق البروفيسور عبد الله باسلامة؛ باحثا عن إجابات لأسئلة متناثرة لرائد ومؤسس وعلم بارز من أعلام الطب في المملكة والعالم العربي، حاولت أن أخرجه من برودة التقاعد إلى حرارة استرجاع الذاكرة عبر المواقف والأحداث لوضع النقاط على بعض الحروف. قال بأنه يؤيد العودة إلى توليد النساء في البيوت بدلا من المستشفيات، ووصف المستشفى الجامعي بأنه الأفضل والأصدق طبيا على مستوى المملكة. طالب وزارة الصحة بلملمة أوراق الروتين الإداري التي أضاعت أولوياتها والتركيز على صحة الإنسان، ودعا لإيقاف هدر الأموال في المستشفيات الحكومية عبر الشركات الخاصة.. الدكتور باسلامة أرسل إشاراته واضحة عندما كشف طبيعة اللغة المشتركة بين شركات التأمين والمستشفيات الأهلية، لكنه ظل متمسكا بضرورة تطبيق نظام التأمين الصحي ليحمل أثقال المواطن البسيط.. المؤسس الذي استلم خطاب تقاعده من مراسل الكلية ابتسم وهو يرد على سؤالي: أنت «بتنبش»! فقلت له: أردت أن يعرف الناس فقط كيف نكرم روادنا وأساتذتنا.. حوار فيه ملامح نصف قرن مضت، ومداواة لجراح أي يتيم..

لم ألحق بوالدي كثيرا، فقد توفي وأنا في السادسة من العمر، ولكن قيل لي إنه كان مهتما بالحصول على العلم من منابعه في الحرم المكي ومصر والشام، ووجدت له رسائل متبادلة مع الشيخ محمد حسين نصيف الذي عمل له وكيلا تجاريا، كما كان قائمقام الشريف حسين على مدينة ينبع وإلى ما قبل أيام دخول الملك عبد العزيز -رحمه الله- إلى مكة المكرمة، فتولت أمي تربيتي وأختي ورفضت الزواج مرة أخرى، رغم صغر سنها، فعلمتنا العزة والكرامة وكانت -رحمها الله- تردد دائما، مع أنها أمية لا تقرأ إلا القرآن ولا تكتب، بيت الشعر «تعلم يا فتى فإن الجهل عار .. ولا يرضى به إلا حمار».

• يقال إنه كان لك أكثر من أب في حارة الباب؟

ــ اليتيم أحيانا حظه في الحياة يبدأ مع وفاة أبيه، لكن هذه ليست قاعدة، واليتم في ذاته ليس مصيبة؛ لأن الله هو الذي اختار له ذلك فسخر له جنودا كما سخرهم لي ولوالدتي -رحمها الله- وأختي، فقد ترك والدي بضعة كتب عندما توفي في مكتبة فدا إلى جوار مكتبة الثقافة في باب زيادة، وكتب في المقعد، وابتدأت الأسرة تبيع بعض الكتب فكنت أذهب إلى باب زيادة لأستلم بعض قيمة الكتب، ثم بدأوا ببيع العصي والمسابح، إلى أن انتهت الموارد وأصبحت الحالة شبه صعبة، وعندما شعر جدي لوالدتي (وكان كفيف البصر) بهذه الحاجة أخذني مع أختي إلى زيارة الملك عبد العزيز وقال له: «هؤلاء أولاد حسين باسلامة، لا يوجد لهم رواتب ولا تقاعد ولا شيء، وباعوا ما عندهم»، فيقال: إن الملك قال: «لا يمكن ألا يصرف له تقاعد»، وأجرى علينا الملك عبدالعزيز دخلا ماديا أعاننا على مواصلة الحياة.

ثم سخر لنا الله العم مصطفى أدهم -رحمه الله- عندما دخلت إلى مكتب في وزارة المالية، وكان في المكتب هذا عدد من الموظفين، فشاهدني واقفا في وسط الغرفة وفي يدي ورقة، فقام من مكتبه وأجلسني على كرسي وغاب نحو ساعة، ثم قال لي: ترى المعاملة تأخذ وقتا طويلا، اذهب إلى المنزل وسوف أحضرها إلى منزلكم بنفسي، وبعد أيام جاء، وكانت المعاملة بخصوص تقاعد والدي، فوجدنا أن راتب المائة ريال أصبح مائة وخمسين ريالا؛ بفضل جهوده التي بذلها وسلمنا المعاملة واختفى، لكنه ترك عندنا أثرا ظللنا نترحم عليه من خلال السنوات الخمسين الماضية وما بعدها.

• بعض الأسر دفعها الفقر لإخراج أبنائهم من المدارس للعمل، فماذا كان موقف الوالدة منك؟

ــ الوالدة ظلت حريصة على تعليمي، لدرجة أنه في أحد الأيام كسفت الشمس فأظلمت الدنيا، فأصرت على أخذي إلى المدرسة لكيلا يفوتني شيء، فوجدت المدرسة مقفلة ولا أدري فربما قد لامت المدرسة في داخلها، لأنها تشجعنا على الغياب -رحمها الله رحمة واسعة- فقد رأت في نجاحي ما خفف عنها تعبها وصبرها، وظللت أذهب كل صباح إلى المدرسة الابتدائية العزيزية، حاملا كتبي المدرسية وكسرة خبز وقطعة من الحلاوة الطحينية، فأمر في طريقي عبر جبل هندي، الممتد من حارة الباب إلى حارة الشامية، الذي أتسلقه مرتين يوميا فأمر من أمام مركاز الشيخ أحمد إبراهيم غزاوي (شاعر الملك عبد العزيز) وزميل والدي في العمل وعضوية مجلس الشورى آنذاك، وكان يسألني يوميا عن أحوالنا، ويسألني أسئلة علمية تدلل على قيمة المدرسين العظام والمستوى العلمي الذي كنا نتلقاه من المرحوم الأستاذ محمد شطا وعبدالله مرداد والخطاط محمد كردي والأستاذ عبدالله مرزا وغيرهم كثير ممن كان لهم فضل علي، أما أصحابي فبقي منهم من بقي ورحل الباقون؛ ومنهم الفريق أول صالح خسيفان والدكتور يوسف ملائكة وجعفر الصباغ واللواء صالح السديس والأستاذ محمد الشاوي وغيرهم.

• دخلت مدرسة تحضير البعثات، التي كانت تضم أبناء الذوات بتقديراتك العلمية؟

ــ الحمد لله، وفي مدرسة تحضير البعثات درسنا على حصير، لكننا حظينا بمدرسين عظام على رأسهم الشيخ محمد متولي الشعراوي -رحمه الله- الذي درسنا اللغة العربية والإنشاء والمحفوظات ويشرف على مسامراتنا الأدبية. ظللت لفترة أذهب مع أصدقائي للدراسة تحت أضواء الحرم المكي حتى انتهينا من الاختبارات، فتقرر أن نسافر إلى مصر لإكمال دراستنا، وكان هدفي لدراسة الطب واضحا أمامي بعد أن تبلورت ميولي العلمية بقراءتي عن التغذية والصحة أكثر من الأدب، وقد شاطرني هذا التوجه الزملاء حسن كامل ويوسف ملائكة وعبدالحميد أبوسليمان، كما تأثرت بشخصية الطبيب التي كنت أشاهدها في الأفلام السينمائية التي ندعى لمشاهدتها في بيت الأستاذ محمد حسين زيدان، وفي تلك الفترة كانت أمورنا المادية صعبة حتى أن أخي علي كانت أمنيته الكبرى في الدنيا أن يشتري حمارا واستطاع أن يبيع الكثير من كتب الوالد ليحقق أمنيته، ويوم شرائه للحمار قام بتحنيته وتزيينه وظل يفتخر به لفترة. وفي ظل هذه الظروف، هيأ الله لنا العم عبدالله غزاوي، ليدخل الفرحة على قلب يتيم، فقد كان موظفا في وزارة المعارف التي كانت تقع إلى جوار مدرسة تحضير البعثات في القشاشية فكان يمت بصلة قربى، فقال لي: أنت لم تأخذ مكافأتك التي تخص اليتامى؟ قلت له: لا، وبعد فترة أحضر لي جنيهات ذهب فاشتريت بها دراجة واستعنت بالمتبقي في مصاريفي في السنوات الأولى في القاهرة في دراسة الطب.

• لماذا اخترت مهنة الطب تحديدا؟

ــ قرأت في كتاب (ديل كارنيجي)، أنه إذا أردت أن تحدد مستقبلك فعليك أن تتصل برواد، فكتبت لبعض الأطباء ذلك الوقت، وكان لرد الدكتور حامد هرساني -شافاه الله وأمد في عمره- ما ساعدني على الالتحاق بكلية الطب، أما ما دفعني للتخصص في النساء والولادة فهو موقف شاهدته عندما عدت في إحدى العطل الصيفية من القاهرة لزيارة أمي وأسرتي فعلمت بأن ابنة أخي الوحيدة التي لم تبلغ الـ20 من العمر ترقد في أحد أروقة مستشفى الولادة في مكة المكرمة بين الحياة والموت، فذهبت للإطمئنان عليها، فصدمت بأنها فارقت الحياة بعد أن ولدت طفلة لم تبلغ الساعة نتيجة نزيف شديد أثناء الولادة، ولم تكن لدى المستشفى عناية طبية مؤهلة، إضافة لعدم توفر الكميات الكافية من الدم، وفي تلك الفترة كانت كل مستشفيات مكة تعاني من توفر وسائل التشخيص الضرورية، فقررت الدخول في هذا التخصص ولم أندم يوما على قراري.

• الغريب أنك تخصصت في مجال لم يكن المجتمع يقبل بكشف الرجل على النساء في الأمراض العادية، فكيف وأنت طبيب نساء وولادة؟

ــ هذا صحيح، فالنساء في الفترة التي ابتدأت فيها العمل لأول مرة لم تكن المرأة توافق إلا لحاجة شديدة، وكانت نسبة 30 في المائة من الولادات تتم في المستشفيات فقط، ومعظمها تكون متعسرة، فيضطرون لمراجعة المستشفى، أما البقية فتتم في المنازل، وكان الأحرى بي في تلك الفترة أن أفكر في هذا الموضوع ولكن أكرمني الله بإنقاذ كثير من الحالات المتعسرة في فترة انتشر فيها (الناسور البولي) الذي يتسبب به تعسر الولادة لضغط الجنين على المثانة، ولحسن الحظ أنني عملت بعد التخصص مع البروفيسور مورو، الذي كان أفضل جراح في زمنه في هذا التخصص، وكنت أقف على رأسه في أية عملية يقوم بها. والحقيقة عندما دخلت الطب لم يكن في خاطري هذا السؤال، ولكن للأساتذة الذين علموني دورهم في ترغيبي بهذا التخصص، وولدي الآن تخرج من الطب ومنذ دخوله إلى الكلية وهو يقول إنه سيتخصص في التجميل من كثرة ما يقرأ من إعلانات في الصحف، وبعد أن دخل في مجال النساء والولادة في الأشهر الثلاثة الأخيرة أوحيت لمن في القسم ليحببوه في تخصص النساء والولادة وبعد أن انتهى من التدريب، قال لي: لن أتخصص إلا في النساء والولادة، فأنا لم أضع في ذهني الخلفية الاجتماعية ولا سأعمل مع من أيضا، وبعض الشخصيات المهمة في المجتمع كانوا يطلبون مني أن أحضر لهم طبيبا للأنف والأذن والحنجرة فيذهب الطبيب ولا يجد موافقة من المرأة، وبالإقناع توافق على أن يكشف عليها على أن يظل الغطاء على وجهها من الحياء. ذلك زمن مضى وليته يعود؛ لأن الحياء كله خير ولكننا ضد أن يتحول إلى أذى يضر به الإنسان نفسه.

• ما الرسالة التي أردت إيصالها عندما قدمت استقالتك من الكلية قبل حفل تخرج إحدى الدفعات؟

ــ أنا كان عندي هدف لأبنائي الطلاب الذين يمسكون الآن بكليات طب الأقسام، وحرصت على أن أخرجهم قبل الامتحانات ليمارسوا على أرض الواقع، فدار الحديث في الكواليس بأن هناك رغبة في تغييري، فسمعت ذلك ولم ألق له بالا، والشيخ حسن بن عبد الله آل الشيخ -رحمه الله- وزير المعارف ورئيس الجامعات في ذلك الوقت مدد لي أكثر من مرة، ولكن سماعي لذلك الكلام الذي يدور في همس لم يرضني، وطالما تحقق هدفي فلم يكن المنصب يشغلني وليأخذوه فاستقلت قبل حفل التخرج وسرت مع طابور الطلاب عند تشريف الملك فهد -رحمه الله- وكان وقتها وليا للعهد، وفوجئت بعد بدء الحفل بالسيد أحمد عبد الوهاب رئيس المراسم الملكية، يبحث عني ويخبرني أن الملك فهد يريدني فذهبت، فأجلسني -رحمه الله- بالقرب منه فكانت رسالة قوية تلقاها المتربصون بكرسي الكلية، وكانت لفتة كريمة أنستني كل المنغصات التي رأيتها، والحقيقة أنني سامحتهم كلهم وليس في قلبي عليهم أي شيء، والحمد لله.

• لو مرضت الآن، فإلى أي مستشفى تذهب؟

ــ إلى المستشفى الجامعي مباشرة؛ لأنه ابنتي الصغرى التي أثق بها، وأتحدى؛ لأن فيها أحسن وأصدق فريق طبي وأحسن المعدات الطبية، وفيها العلم الذي يسير جنبا إلى جنب مع الطب. وقد ولدت زوجة ابني مولودة على يد إحدى تلميذاتي في المستشفى نفسه قبل أيام، مع أنه كان بالإمكان إدخالها إلى مستشفيات أكبر في المنطقة.

• ولكن هناك فوارق أيضا حتى بين المستشفيات الحكومية الكبرى؟

ــ الحكومية أنواع، ولكن هناك عقبة الآن في كيفية الوصول إلى العناية الطبية المقرونة بالعلم.

• هل توجد هذه الممازجة في المستشفيات الخاصة؟

ــ في المستشفيات الخاصة توجد الناحية الطبية، لكن يظل فيها قبل ذلك رأي صاحب المستشفى على أي طبيب بأن عليه أن يسدد له قيمة الأجهزة الطبية الغالية التي أحضرها للمستشفى، فهناك زحف على الطب، ولكنني متفائل بتعميم فكرة التأمين الصحي؛ لأنها ستحمل هذا العبء عن الإنسان بنسبة كبيرة.

• أنت تؤيد التأمين الطبي الذي يراه الكثيرون بابا مشرعا للمستشفيات الأهلية لتأكل الأخضر واليابس؟

ــ هي شركات قادرة، وهم يفهمون لغة المستشفيات ومديريها أيضا، لغة لا نفهمها أنا وأنت.

• والخدمة الصحية، هل تسير وفق التطلعات؟

ــ تطلعات المواطن حاليا الآن تختلف عن أيام زمان، خصوصا في مجالات الفندقة التي يمكن توفيرها بالقدرة الشرائية من خلال المستشفيات الخاصة التي تسبق المستشفيات الحكومية في هذا الجانب فقط، لكن من الظلم أن ننكر تطور المستشفيات الحكومية، فهناك تقدم واضح في الخدمات، ولو نظرت إلى المستشفيات العسكرية والمستشفى التخصصي مثلا فمستوياتها عالية، بل إن التخصصي يسبق في مستواه وتهيئته الكثير من المستشفيات الخاصة، ومع توحيد الكادر الطبي ستتحسن الأمور، لكن يبقى موضوع الارتقاء بالمعدات الداخلية؛ بدءا من الغرفة والسرير والنظافة، له أولوية حاليا.

• ما رأيك في الاستراتيجيات الصحية التي تسير عليها المملكة؟

ــ مرت فترة على وزارة الصحة كان باستطاعتها أن تعمل الكثير في مجال الصحة، لكنها انشغلت في الأمور الإدارية الروتينية، وأصبحت الصحة آخر القائمة، لكن الآن تغيرت الأمور خصوصا لو طبق التأمين الصحي الذي قد ينقذ المواطن إلى أن تمسك الجهات المسؤولة عن الصحة بزمام الأمور.

• كأني بك تجامل تلميذك الدكتور عبد الله الربيعة؟

ــ أنا لا أجامله ولكن بمقارنة ما لدى الدول العربية نجد أن وضع المواطن الصحي في المملكة أحسن بكثير، ولو ركزت الوزارة أعمالها في إعطاء المريض والمستشفى والطبيب اهتماما أكبر، فستتغير الأمور كثيرا نحو الأفضل.

• المعروف أنك من معارضي فكرة تشغيل المستشفيات عبر شركات؟

ــ لأننا قادرون على تنفيذ التشغيل الذاتي بشيء من التنظيم بأنفسنا ولدينا من الكفاءات ما نفتخر به من أبنائنا، وأعطيك مثالا؛ الدكتور فؤاد عزب فقد أوكلنا له إحدى العمليات ونجح بصورة باهرة ووفرنا مبالغ هائلة لصالح المستشفى الجامعي، أما الشركات فتأخذ مانسبته 40 في المائة من ميزانية التشغيل.

• جانب تأهيل المساعدين والممرضين الصحيين، وهم الأكثر احتياجا في المستشفيات بموازاة مهنة الطبيب، ما زال مهملا، لماذا؟

ــ لم نهمل هذا الجانب، فقد كانت لدينا خمس كليات للطب والعلوم الطبية والتمريض والتقنية الطبية والأسنان، وقبلنا في السنة الأولى 100 طالب، وبعد شهرين أصبحوا 50، وفي يوم الاختبار تراجعوا إلى 20 طالبا، والسبب أن التوقيت الذي بدأنا فيه كانت النظرة الاجتماعية لهذه المهن للجنسين غير مقبولة أو مقنعة، مع أننا كنا نهدف لتخريج رؤساء أقسام لا ممرضين على طريقة المعاهد الصحية، بحيث يحمل خريج كلية التمريض شهادة بكالوريوس. الآن بدأنا نلتفت إلى هذا الجانب، لكننا متأخرون كثيرا عن الركب.

• دكتور.. بصراحة، لماذا تم تهميش المخطط المنهجي العلمي لطلاب كلية الطب الذي وضعته، واستبداله بآخر أقل منه؟

ــ قبل ليلتين كنت في حديث مع بعض الأطباء الذين تخرجوا في المنهج الذي اخترناه، وهم يدرسون الآن المناهج الجديدة، واحدة من الطبيبات قالت لي: إن كان هناك شيء نترحم عليه فهو ضياع المنهج العلمي الذي كنا ندرسه يا دكتور.

المنهج الذي وضعناه وتم تهميشه ووضعه في الأدراج تم تجميعه من دراسة 32 منهجا طبيا في العالم من كندا إلى ماليزيا إلى الهند إلى بريطانيا وألمانيا، وكان هدفي أن يتخرج طلابي إخصائيين ورؤساء أقسام؛ لأن احتياجنا كان شديدا لهم أكثر من احتياجنا للطبيب العام.

• هل الغيرة هي السبب؟

ــ الغيرة موجودة في كل زمان ومكان، ولكن المنهج الذي وضعته مرهق للطالب والأستاذ ولجنة الامتحانات والمصححين، ولم يكن يطبق سوى في سياتل الأمريكية وماليزيا، وجزء منه طبق في جامعة الملك سعود.

• وما مدى تأثر مستوى الأطباء الجدد لهذا التغيير؟

ــ بلا فخر، فالفارق بين خريجينا والخريجين الآن شاسع، صحيح أنهم يتخرجون كلهم أطباء، لكن مستوى التحصيل العلمي عند خريجينا أعمق وحصولهم على الشهادات العليا يتم بسهولة لتجهيزهم الجيد وبمعيار النسبة والتناسب فمن يحصل من طلابي على الشهادات العليا في سنتين نجد أن الطلاب الحاليين يأخذون وقتا أطول من ذلك بكثير.

• أيضا، لماذا تعثر مخطط المركز الطبي لسنوات وتم تنفيذه بعد استقالتك من الكلية؟

ــ ظل متعثرا ست سنوات؛ لأن الجامعة ربطته بمخططها العام، مع أنه كان مفصولا كمشروع لوحده، وللأمانة فقد كان معالي الشيخ محمد أبا الخيل وزير المالية الأسبق، وبتعليمات عليا، متعاونا معي جدا لتنفيذ المشروع ولكن كانت هناك مشاكل بين الجامعة والوزارة ووقتها خرجت من الكلية، لكنه نفذ الآن والحمد لله.

• ومن الذي وقف أمام ترشيحك كوكيل وزارة يا دكتور؟

ــ لم يقف أحد أمام ترشيحي، إنما اعتذرت بمبادرة مني وقلت لمن رشحني «لست قادرا على السير في هذا الطريق لقناعاتي الخاصة» فقبل عذري.

• هذا يعني أن هناك مشكلة أوخلافا؟

ــ بل كانت وما زالت المحبة موجودة إلى الآن، ولا تسألني عن شيء أبعد من ذلك.

• هل تؤيد الرجوع إلى عمليات التوليد في المنازل عبر القابلات؟

ــ يجب أن تعود؛ لأن الكثير من الولادات الطبيعية الآن يمكن أن تتم في البيوت بسهولة وبعيدا عن حاجز الخوف والهلع الذي يعتقد الكثيرون أنه يزول بمجرد الذهاب الى المستشفيات، والمسألة ببساطة تتطلب أن تكون هناك زيارات شهرية للطبيب في الشهور السبعة الأولى، ثم زيارة كل أسبوعين في الشهر الثامن، ثم زيارة أسبوعية في الشهر التاسع.

• ما الشعور الذي حاصرك عندما استلمت خطاب تقاعدك مع مراسل الكلية؟

ــ الموضوع أصبح من الماضي الآن، لكنني بصراحة لم أستسغ طريقة إرساله، وان كنت تفهمتها في ما بعد على أنها شعور بالخوف من ردة فعلي تجاه الموضوع وما دروا أنني كنت فرحا بالتقاعد، ثم تم تكريمي بعد ذلك فنسيت كل شيء.

• هل خسرت كثيرا لموقفك الرافض دائما قبول الطلاب عن طريق الواسطة؟

ــ دون شك، وعندما كنت وكيل كلية الطب في الرياض تجمع عندي ملف لأكثر من 25 طالبا، فذهبت للشخص الذي أرسلهم وشرحت له أن لدي طلابا أفضل من هم تقديرا، فقال لي: وماذا أعمل للتخلص منهم سوى إرسالهم إليك، فأنت صاحب القرار ومن لا يصلح لا تقبله أبدا. أنا أعتقد أن بعض المهن ينبغي أن تكون القدرة العلمية هي أساس الاختيار ولا تقبل فيها المجاملة أبدا.

• لكنني على علم أنك جاملت بعض أعضاء هيئة التدريس دون ذكر أسمائهم؟

ــ أعترف أنني ندمت على تعيينهم إلى الآن لأدائهم المخيب الذي لم أتوقعه.

• اشتهرت بلقب (طبيب الأمراء)، لماذا؟

ــ كان لي شرف العناية بسبب ندرة العاملين في مجال تخصصي بولادة ما يزيد على المائة من الأمراء والأميرات؛ ومنهم الأمير عبد العزيز بن فهد، ومن الأميرات من هن الآن أمهات وجدات، ولا أنسى أم علي (السيدة النجدية) التي قاربت على الخمسين من العمر آنذاك، وكانت داية مشهورة ومتخصصة في العناية بالأسر الكبيرة، ولكنها كانت من الذكاء بحيث عرفت أنه عندما يحين الأوان يجب أن تقف الداية وتترك المجال فأكسبتني -رحمها الله- ثقة الناس وفتحت لي طريق الشهرة في البيوت والأسر الكبيرة.

• هذا يعني أن الطبيب يمكن أن يتوقف في لحظة معينة أيضا؟

ــ علمني أستاذي الدكتور مصطفى أمين -رحمه الله- كيف يجب أن يتوقف الإنسان عندما يحين الأوان، وكان قد بلغ السبعين من عمره عندما وصلت إلى الرياض، كنت إخصائيا لأمراض النساء والولادة في مستشفى الشميسي وظل يصر علي دائما بمساعدته في عملياته، ففي إحدى العمليات ارتعشت يده فقال لي: «انظر أنا وجدت واحدا يمسك بيدي الآن، لكن تذكر أنك لن تجد غدا أحدا يمسك يدك حتى لا ينقطع الشريان، اسمع نصيحتي: عندما تجد الأمور خلاص توقف».

• ومن الذي أدخلك من بوابة الكتابة قسرا التي يرى البعض أنها ليست صنعتك؟

ــ أنا لست غريبا على الثقافة والأدب والعلاقة مع الكتاب ورثتها عن أبي -رحمه الله- الذي كان علما في هذا الجانب، كما أن البيئة الثقافية، التي وجدت نفسي جزءا منها، صاغت جزءا من تفكيري، ثم نضجت تجربتي مع القراءة والاطلاع وحضور ندوات الكاتب الكبير عباس محمود العقاد أثناء دراستي للطب في القاهرة، وكنت أذهب سوية مع صديقي وأخي الدكتور زهير السباعي كل جمعة لبيته؛ فالخلفية موجودة ولله الحمد، ولكن الممارسة بدأت عندما كنت عميدا في كلية الطب، إذ دخل مكتبي المرحوم الشيخ عبد المجيد شبكشي، وقال: «أحسن ما أنت جالس فاضي أكتب كلمتين دعنا نضعها في (البلاد)» عندما كان رئيسا لتحريرها، وسكت وبعد ذلك جاءني عبد العزيز الجرجاني رحمه الله، وقال لي: هل تكتب أم أكتب أنا؟ قلت: لا، وكتبت وقفة، وبعد ذلك جاءني بعد أسبوع وأخذ الثانية، وهكذا وجدت نفسي في حقل أنا سعيد به وإن لم يعجب البعض.

• وهل ما زال الثور يحرث؟

ــ رحم الله شيخنا وأستاذنا الكبير محمد حسين زيدان -رحمه الله-، هذا الرجل خالف الجميع عندما كتب وقال: «نعم يمكن أن تربي امرأة ثورا ويحرث»، والقصة أن الشيخ محمد حسين زيدان كان جارنا في مكة ونحن أطفال مع أولاده، فوصل إلى مسامعه من العوائل أن النسوة يقلن للوالدة: لا تتعبي نفسك لا توجد امرأة تربي ثورا ويحرث، ويظهر أن الشيخ -رحمه الله- احتفظ بهذا الخبر عنده إلى أن أكملت تعليمي وعدت وبدأت حياتي العملية فكتب في إحدى الصحف السعودية أنه ممكن (ثور يحرث). فعندما قرأتها للوالدة شعرت بسعادة كبيرة من هذا، وأبشرك ما زال الثور يحرث في الكتابة إلى الآن.

حوار : بدر الغانمي