د. سامي عنقاوي : اكتشفت بيت الرسول في 40 يوماً
ما زال الدكتور سامي عنقاوي المدير الأسبق لمركز أبحاث الحج يشعر بالأسى للطعنات التي أصابته في الظهر
ما زال الدكتور سامي عنقاوي المدير الأسبق لمركز أبحاث الحج يشعر بالأسى للطعنات التي أصابته في الظهر وتحت الحزام وأخرجته من المركز الذي أنشأه وقضى فيه 14 عاما من عمره، عنقاوي الذي يعد من أشهر الناشطين في مجال الحفاظ على الآثار الإسلامية يعتبر أن تاريخنا الذي نحكيه لأبنائنا بدأ يتحول إلى أشبه ما يكون بالأساطير للحرص الدائم على طمس أي أثر تبعا لنظرية الفكر الواحد، الرجل الذي اشتهر بلباسه الحجازي ومنزله المصمم على نفس الطراز والذي استغرق بناؤه 15 سنة منفتح في آرائه ويفضل الإطلالة من خلال القنوات الإعلامية الأجنبية؛ لأن صوته فيها عادة ما يكون مسموعا .. حذر من التفجيرات الجبلية الحالية في مكة لتأثيرها المباشر على بئر زمزم، ودعا للتعامل مع الحج كمنظومة شاملة، وينادي بتطبيق المدنية العكسية من خلال مجلس حكماء يضم علماء الأمة في مختلف المجالات على مرجعية دينية لحل مشاكلها.
وبدأ حواره بقوله: نشأت في بيت تعيش أركانه وسكانه على خدمة ضيوف الرحمن، وتعلمت من والدي الذي كان مديرا للشرطة، ورأيت كيف يتحول من آمر ناه ببزته العسكرية إلى مأمور لين الجناح ومتواضع مع الحجاج والمعتمرين، حملت وأنا صغير أحذية الحجاج على كتفي لكيلا تضيع عليهم عند باب المسعى.
بعد انتهائي من دراستي في أمريكا وألمانيا وكنت شاباً متحمساً لم أجد من يرد على ما في رأسي إلا الملك فيصل فركبت سيارتي واتجهت إلى الرياض لمقابلته لأشرح له دراستي عن الحج وهو موضوع رسالتي للماجسـتير، لكنني فجعت كما فجع جميع المسلمين وأنا أسمع في الراديو نبأ اسـتشهاده فعدت أدراجي حزينا كسيرا على ملك أحببناه وما زلنا نحبه. بعد أسبوعين عدت مرة أخرى لأقابل الأمير أحمد ــ حفظه الله ــ وكان وكيلا لإمارة مكة المكرمة آنذاك بتوصية من الشـيخ حسـن بن عبدالله آل الشيخ، عرضت على سموه فكرتي فدعمني وشجعني وأشرف على دراستي، وبعد عودتي إلى المملكة ألقيت محاضرة في جامعة الرياض سابقا (الملك سعود حاليا)، وأتبعتها بأخرى في جامعة الملك عبدالعزيز فتحمس الدكتور عبدالله نصيف لفكرتي إنشاء المركز لأبحاث الحج، ومن ثم حصلنا على موافقة الأمير أحمد على البدء فيه ولكن وقفت أمامي عقبة أنني كنت مبتعثا إلى أمريكا على نفقة وزارة الدفاع والطيران، وكنت أول مهندس سعودي معماري يرجع للوزارة في فترة بداية إنشاء المدن العسكرية، ووجدت أنه ليس أمامي لتحقيق طموحي في مجال أبحاث الحج إلا أن أطلب من الأمير سلطان ــ حفظه الله ــ الموافقة على نقلي إلى الجامعة فقابلته ولم يقصر معي بعد تفهمه لرغبتي، وكان له فضل في ذلك. أما سمو الأمير نايف فكان له دور أساسي في التنبيه للمركز وعرضه على مجلس الوزراء لأخذ الموافقة فصدر قرار مجلس الوزراء بإنشاء المركز رسمياً وتكوين مجلس أعلى له برئاسة سموه.
• تركت مركز أبحاث الحج، أم هم تركوك؟
ــ أنا استقلت عندما وجدت أن وقتي يضيع سدى بسبب كثرة التدخلات والأساليب البيروقراطية التي اتبعتها جامعة أم القرى معي ربما لتطفيشي بعد 14 سنة من النجاح.
• والسبب؟
ــ إن ما بني على غلط فهو غلط، والبداية انطلقت مع القرار الخاطئ للجنة الإصلاح الإداري التي اجتمعت بعد انفصال جامعة أم القرى عن جامعة الملك عبدالعزيز وطلبها أن يكون المركز تابعا لها في الوقت نفسه الذي طلبت فيه وزارة الحج أن نكون تابعا لها أيضا.. وللأسف أن اللجنة لم تدرس المركز ولم تستشرنا في النقل وعندما وقعت الفأس في الرأس التقيت أحد أعضاء اللجنة فدعوته لزيارة المركز وبعد زيارته كان مندهشاً وقال لي فيما معناه: لم نكن نعلم أنكم مركز أبحاث علمية واتخذنا قرارنا على أنكم مركز شريعة وفقه وتاريخ وهذا ما يتناسب مع جامعة أم القرى التي بنيت في تأسيسها على كليات الشريعة فكنا مثل النبتة التي توشك على إعطاء ثمارها فاقتلعت من مكانها في الوقت غير المناسب.
• تعتبر نقلكم غلطة؟
ــ بدون شك، وفقدنا بانتقالنا من جامعة الملك عبدالعزيز كل الميزات التي كنا نتمتع بها كمركز بحث علمي، ويؤسفني أن أقول إن الوعود التي وعدني بها ابن عمنا الدكتور راشد الراجح أن وضعنا لن يقل عن أية كلية في الجامعة ذهبت أدراج الرياح.
• ما الذي تغير عليكم؟
ــ كل شيء من اللامركزية إلى المركزية الشديدة. فقد فقدنا الكليات العلمية التي تساعدنا في أبحاثنا، ثم أغلقوا فروعنا التي أنشأناها بتشجيع من الأمير عبدالمجيد ــ رحمه الله ــ في المدينة المنورة، وكذلك مقرنا في جدة بحجة (أن جحا أولى بلحم ثوره) كما قال لنا أحد المسؤولين في الجامعة آنذاك، تلا ذلك صدور قرار بتغيير الصلاحيات فوجدت نفسي مكتوف الأيدي، وبدأوا في إعادة تقييم العاملين في المركز مع إصرارهم على تخفيض المرتبات مما دفعني إلى الاعتراض على الوضع، حيث لم تنته بعد مدة التعاقد معهم، «والعقد شريعة المتعاقدين»، فصدر أمر بإيقاف الرواتب عن المركز ليضغطوا علي لقبول أي حل من قبلهم، فذهبت لكبار المسؤولين وتمت مخاطبات عدة في هذا الشأن وانشغلت كليا عن المركز وأبحاثه وتوقف معي كل العاملين مما اضطرني إلى الاستدانة على مسؤوليتي الخاصة من أهل الخير لإعطاء العاملين والباحثين في المركز ما يكفي لسد احتياجاتهم الأساسية بل حتى اليومية هم وعوائلهم محاولة لفك ذلك الحصار، ثم بدأت عمليات الضرب تحت الحزام فوجدوا علي مدخلا لأنني ظللت أستخدم صلاحياتي القديمة ورفضت صلاحياتهم الجديدة التي لم تتناسب مع السرعة والأعمال المطلوبة من المركز فاختل التوازن. بل تطورت الأمور إلى أبعد من ذلك، في فترة سفري تم اقتحام المركز ونقل الأثاث والمعدات بطريقة عشوائية كان لا يهمها إلا الأشياء العينية بصرف النظر عما كان يحتويه المركز من ملفات وأرشيفات وبنك المعلومات الحاسوبية الخاص بالمركز، مما أضاع مجهود سنوات عديدة ومئات الألوف من ساعات العمل للباحثين والفنيين في المركز.
• كيف كان ذلك؟
ــ آخر صورة لا أستطيع أن أمحوها من ذاكرتي مع أبنائي الصغار، عندما كنت في يوم جمعة أمر بجانب المركز في جدة فوجدت الباب الخارجي مفتوحا دون أي حراسة ــ الذي توافق مع يوم غزو الكويت ــ ففجعنا مما رأينا؛ الملفات وأقراص الكمبيوتر وكثير من الأبحاث والصور التي كانت نتاج جهد سنوات وسهر ملقاة ومبعثرة على الأرض.
• هل أحالوك إلى لجان التحقيق بشأن مخالفات مالية؟
ــ لا لم تكن مخالفات مالية، وإن كانت مخالفات مالية فإنني لا أتردد في تكرارها لأنني حوسبت على أموال جلبتها إلى المركز وليس أموالا أخذت منه، كما هو المعتاد. وكذلك الديون التي اقترضتها لسد رمق الباحثين في المركز بسبب الحصار، وبعضها كانت لتغير الصلاحيات، ولم ينته الأمر إلا بتدخل سمو الأمير ماجد ــ رحمة الله عليه ــ عن طريق ديوان المظالم الذي حكم لصالحي وأوقف الأمر. وهنا أجد فرصة بعد التأمل لعدد من السنين وبعد ما حصل في جدة أخيراً من كارثة السيول وأمر ولي الأمر خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بالتحقيق، أرجو أن يكون هناك تحقيق في أمر المركز، ولماذا لم يحقق المركز أهدافه التي أمر بها مجلس الوزراء. وأنا على استعداد أن أكون أول من يحقق معه لإظهار الحقائق لتلافي الكوارث قبل حدوثها ــ لا سمح الله.
• الغريب أنك لم تقدم استقالتك بسرعة للتخلص من ضغوطهم؟
ــ كنت وما زلت أحب هذا العمل وفضلته طوال 14 عاما التي قضيتها فيه على الجلوس مع أبنائي، بل إنني كنت أعقد تماما اجتماعا مع العاملين في المركز لمناقشة الأعمال المطلوبة للجنة مهمة من لجان الحج في غرفة مجاورة لغرفة زوجتي التي كانت تلد ابني الأول في المستشفى في نفس اللحظة، وتزامنت تلك الفترة من وجودي مع سنوات الطفرة الأولى وكانت بين يدي مخططات جدة ومكة المكرمة والمدينة المنورة وتمنى الكثيرون أن أشاركهم على أن يكون لي نسبة عالية وصلت إلى 50 في المائة من العائد من بيع وشراء الأراضي، فلم ألتفت لذلك وتخليت عن كل ذلك وأحمد الله على ذلك. وعندما صدر قرارهم بتعييني مستشارا لمدير الجامعة لأبحاث الحج وتعيين مدير جديد فعرفت أن المفاصلة قد وقعت. فقدمت استقالتي لأنني لم أتخذ المركز وظيفة أبدا، ويعلم الله أنني عملت سنتين بدون مرتب في بداية عملي في المركز ولم أطالب بشيء وفي الفترة التي كنت محسوباً فيها على وزارة الدفاع.
• ربما كان لمحاولتك الانفراد بقرار التمدد وفتح فروع خارجية سبب في انقلابهم عليك؟
ــ الصلاحيات المعطاة لي في النظام تسمح لي بذلك، ولكنني منعت وحوسبت على ذلك مع أن تجربتنا نجحت وأثمرت منذ خطواتها الأولى، فقد عملنا مراكز أبحاث بالتعاون مع جامعات إندونيسيا وكراتشي ونيجيريا ومصر، وكذلك مع جامعة كاليفورنيا حيث طورنا جهازا خاصا لتجميد الأضاحي دون سلخها، وتكفل الشيخ عبدالله هاشم ــ رحمه الله ــ بدعم المشروع الذي لم يحدث في العالم كله، وبعد أن ركبنا الأجهزة فوجئنا بحدوث مشكلة في استيراد الأضاحي فتغيرت المواصفات وأصبحت الأحجام الكبيرة من السواكني على عكس مواصفات الجهاز فلم نتمكن سوى تنفيذ 7 آلاف أضحية بدلا من 14 ألفا المقررة فقالوا فشلت التجربة دون إعطاء فرصة لاستكمال التجارب كما هو الحال في البحث والعمل العلمي، وما زلت أعتقد أن أفضل الطرق للاستفادة من الأضاحي هو تطبيق أبحاث ودراسات المركز في هذا الشأن بعد تطويرها.
• وهل استكملت الأعمال التي بدأتموها بعد استقالتك؟
ــ لا أدري، فأنا لا أدعى ولا أستشار، وفي المرة الوحيدة التي اتصلت فيها بالدكتور أسامة البار وطلبت فيها أن أحج معهم رحب بي كثيرا وقال لي سأعطيك غرفتي الخاصة، وكان باراً بالفعل. وأتيحت لي الفرصة لمشاهدة أعمالهم فوجدت فيها محاولات تبذل لكنها تدور في فلك التكرار مثل حجر الرحى، وليس لها علاقة بأهداف وأعمال المركز السابقة وكأن الأبحاث تعمل لنيل الدرجات العلمية فقط.
• يقال إنك كنت تفلسف الحج نظريا أكثر منه عمليا؟
ــ هذا كلام غير صحيح، بل كنت أتعامل معه بأسلوب علمي منتظم؛ لأن كل جزئية في الحج لها علاقة بالجزئية الأخرى والجزء يؤثر ويتأثر بالكل. والحج في أماكنه والتحرك بين هذا الأماكن كأنه أقرب إلى نظام الأواني المستطرقة، حيث أن سعة النظام في كامله هو بسعة أصغر وعاء فيه. كما أن الحج في مكوناته يعد حلقات مترابطة في سلسلة متناسقة في قوتها وعلاقتها وأحجامها ولكن المتغيرات التي طرأت في العصر الحديث وعدم فهمنا لهذه المنظومة وعدم التناسق بين ما ينفذ ومحتوى تكوين هذه المنظومة، يجعل من الصعب معرفة نقاط ضعف هذه السلسلة بتغير المعطيات الثانوية، وطبق كل الفرضيات على أرض الواقع بدليل أن العمل الحالي على الحج يركز على الجانب المكاني فقط وكيفية استيعاب أعداد الحجيج، بينما ركزنا في جميع مراحل عملنا على المكونات المكانية والزمانية وعدد الحجاج؛ لأننا لو استعملنا عامل الزمان لانحلت الكثير من مشاكل الحج على طريقة الأواني المستطرقة والحج في مكوناته مثل السلسلة، قوتها في أضعف حلقة فيها، والمشكلة في الحج حاليا أن الحلقة الضعيفة تتغير كل سنة ولا تعرف أين تكون الضربة. والتخطيط للحج أعقد من الصعود إلى المريخ؛ لأن المسألة هناك مبنية على حسابات وأرقام بينما في الحج تتراوح الحسابات بين 50 إلى 60 في المائة والباقي تقديرات وأحوال تحتاج إلى معرفة وخبرة تراكمت على مدى مئات السنين حتى قيل «إن أهل مكة أدرى بشعابها».
وفي محاولتي كان المركز هو الآلة التي حاولنا أن نصنعها لنتعامل مع الحج كشعيرة دينية ثابتة.
• كانت لك محاولات وجهود غير مرئية للاستقلال بالمركز؟
ــ نعم، عرضت الموضوع على سمو الأمير نايف وطلبت استقلالية المركز؛ لأنه أصبح مقيدا وحبيسا ولم يعد بحاجة إلى فترة حضانة في الجامعة، وبعد أن شب عن الطوق وأصبح بحاجة إلى خصوصية وتعامل مباشر مع جامعات المملكة والعالم، وأن يكون منتجه ليس للحج فقط بل ليستفاد منه في جميع المجالات كالبيئة والحركة وإدارة التجمعات البشرية والأمراض والصحة، وهذه النظرة الشمولية هي التي تساعدنا على أن نجد للحج حلولا تفصل تفصيلا له ويعم نفع منتجها على العالم كله
• بعد كل هذه السنين ما هي مرئياتك عن الحج؟
ــ في 1429هـ نويت أن أحج وأمر بالتجربة كاملة كحاج بين الملايين حتى يتسنى لي التعرف والمقارنة واقعياً، ففوجئت أنه على الرغم مما تبذله الدولة من جهود لا تقارن بأي جهد في أي مكان في العالم وأموال طائلة تصرف، إلا أن الكثير الكثير من المشاكل والعقبات لم تتغير منذ 30 عاماً، ولدي ما يثبت ذلك. فإذا قدر أن ما نضعه من جهود هو 100 فإن المردود حتى الآن لا يتجاوز 10 في المائة مما هو مطلوب تحقيقه وإنجازه.
• أعتقد أن المسألة حلت الآن بوجود هيئة تطوير مكة المكرمة والمدينة المنورة والمشاعر المقدسة؟
ــ الهيئة هي جزء من معادلة أكبر لا تكتمل إلا بوجود هيئة علمية بحثية تهتم بالدراسات والأبحاث وصولا إلى وضع الاستراتيجيات على أن تكون هذه الهيئة ذات استقلالية علمية حيادية متكاملة على غرار جامعة الملك عبدالله ولكن بشكل أصغر، وكما قال الملك عبدالله في رحلته إلى الصين عندما سئل عن البترول فقال إن لدينا أهم وأثمن من البترول ألا وهو الحج ومكة والمدينة، فلماذا لا تكون له هيئة علمية مستقلة متكاملة، تسعى إلى تحقيق ما تصبو إليه حكومتنا الرشيدة وعلى رأسها الملك عبدالله، وعلى أن تكون مستقلة تتوازن مع الجانب التخطيطي للهيئة.
• ألم يكن حجم الإنفاق على المركز كافيا تلك الفترة؟
ــ على مقولة مسؤول كبير لو صرفنا على المركز قيمة واحد من مواقف السيارات لوفرنا مئات الملايين من الريالات، والحج والحرمان يصرف عليهم عشرات البلايين، فلو خصصنا نسبة كما هو في الدول المتقدمة 3 ـ 5 في المائة على البحث العلمي والدراسات لوفرنا الكثير من الأموال وهي الأقل أهمية والجهود بل والأرواح، ولتفادينا الكثير من المشاكل والكوراث ــ لا سمح الله.
• ألا تدعى حاليا في أي نشاط يتعلق بأبحاث الحج؟
ــ حضرت اجتماعا أو اثنين ووجدت أن العاملين في المركز يتكلمون بكلام ضد المبادئ الأساسية للمركز وأهمها الحفاظ على البيئة الإسلامية لمكة المكرمة والمدينة المنورة والحفاظ على البيئة الطبيعية لهما وللمشاعر. والحقيقة أنني لا أرغب في التوسع بشأن هذا الأمر لكنني استغربت أن يدعى أكثر من 150 شخصا في قاعة ليلتي ومن الحضور من سألني عن جدوى حضوره الشرفي وغيابي عن الاجتماع كمتخصص فأجبته بالصمت، تصور يا أخ بدر أنني أكثر شخص في المملكة كلف الدولة في تعليمه فقد تعاقب على العمل معي على مدى 14 سنة في المركز أكثر من مائة بروفسور في كافة التخصصات العلمية من جميع أنحاء العالم وكلهم تعلمت منهم وشاركتهم أبحاثهم حتى أنني أطلقت صفة علمية جديدة «Hajjyologist» أي متخصص حج، وقد أكون أنا من أولهم، ثم يقال لي بكل بساطة: «خلي عنك».
• شعرت بالإحباط؟
ــ أستطيع أن ألخص لك ما حدث مستعيرا من ابن الرومي بتصرف، بأنني كنت نيئا فطهيت فاستويت والآن أحترق وشمعتي تذوب ولا يستفاد منها داخل بلادي وأرضي. ويستدعى المستشارون من تلاميذي من الداخل وزملائي من الخارج للعمل على مكة والمدينة والحج، وأين أنا من كل هذا!
• ربما لفكرك المخالف دور في موقفهم منك؟
ــ أنا لا أعترف بالمخالفة ولكن اعتبر نفسي صاحب فكر مساند، فلدي ثوابتي التي أعلنها دوما.. الله واحد، والدين واحد، والوطن واحد، والحكم واحد، أما بعد ذلك فأنا حر لإبداء الرأي بعد البحث والدراسة والتأمل والفكر. وللغير الحق في قبوله أو رفضه.
• كيف تصنف نفسك؟
ــــ مشكلتنا التي نعيشها أننا نصنف حيث يجب التعميم ونعمم حيث يجب التصنيف، ونعمم على من في الخارج بأنه كافر، أما بيننا فنقسم ونجزئ ونصنف فإذا كان لابد من التصنيف أو التعميم، فلن يكون هناك مشكلة لو عكسنا ذلك. نعمم بيننا؛ فكلنا مسلمون ونشترك مع غيرنا من البشر أبناء آدم في الأيمان والأنسانية أما الكافرون فلهم التصنيف كما جاء فى القرآن.
• ولماذا ينظر البعض إلى قضية التمسك بالتراث على أنها رجعية؟
ــ أمة بلا تراث إنسان بلا ذاكرة، ومشكلتنا التي نعاني منها في العصر الحديث أننا أخذنا المفهوم الغربي بأن التاريخ ماض والحاضر مستقبل، ونحن نعيش للمستقبل.
• والماضي ؟
ــ نرويه لأبنائنا وكأنه أساطير.
• تقصد أشبه بالخيال ليس موجودا على أرض الواقع؟
ــ أكرر دوماً أن الفرق بين الأسطورة والتاريخ هو وجود شاهد ودليل على أرض الواقع. بينما نحن نملك كل الأدلة ولكننا نعمل على طمسها، في حين أن العالم بأسره على الرغم من العولمة، نجد هناك اتجاها شديدا للتركيز على تاريخ وتراث في كل قرية ومدينة وأرض.
• ماذا عن اكتشافك لبيت النبي صلى الله عليه وسلم؟
ــ أكرمني ربي بهذا الأمر وقمت بتسليمه للجهات المسؤولة بعد عمل 40 يوما من البحث والتوثيق والتسجيل والتصوير، فضطررت إلى دفنه بالطرق العلمية الصحيحة، ولو اكتشف بيت سيدنا موسى عليه السلام لقام العالم ولم يجلس.
• دفنته معترضا؟
ــ عملت عليه 40 يوماً على عجل، في حين أنه كان يلزمه سنوات، وأشير هنا إلى أن هناك مكانا آخر لا يقل في أهميته ومكانته التاريخية والأثرية عن هذا المكان الذي عاش فيه الرسول ــ صلى الله عليه وسلم ــ هو بيت السيدة آمنة المكان الذي ولد فيه الرسول ــ صلى الله عليه وسلم.
• ولكنه مبنى حديث؟
ـــــ نعم، الموجود على السطح هو المبنى الحديث كما كان على بيت السيدة خديجة مبنى آخر، ولهذا قصة تبين وتوضح بعد نظر وحكمة مؤسس هذه البلاد عندما وافق الملك عبدالعزيز ــ رحمة الله عليه ــ على الاقتراح الذي قدمه له المرحوم الشيخ (القطان) بأن يكون مولده مكتبة وبيت السيدة خديجة مدرسة قرآن ودار الأرقم للحديث. فقال له الملك الحكيم ــ رحمة الله عليه ــ قولته المأثورة: «افعل وعجل». ولم يتبق لنا من هذه الأماكن التي حافظ الملك عبدالعزيز ومن قبله إلا مولده ــ صلى الله عليه وسلم.
• ماذا تقصد بالتوعية؟
ــ هناك من يسيء التعامل مع هذه الأماكن بالمبالغة، وهناك من يقوم بإزالتها في محاولة لتفادي المبالغة في التعامل معها، فينتج خطأ أكبر يبقى أثره على مدى الأجيال المقبلة، وأشبه ذلك بمن ينظر إلى المرآة فلا يعجبه ما يرى فيغير في المرآة نفسها، والأسوأ هو تكسير المرآة فتنقطع العلاقة بين الواقع في الزمان والمكان.
• الكثير يقولون إنك تدندن على رفات ذاكرة مستوردة وزائفة؟
ــ الذاكرة الحجازية ليست زائفة ولا مستوردة بل أصيلة. والحجاز تكوينه داخليا وخارجيا في الأكل واللبس واللهجة والعرق والأصل يقوم على هذا الاختلاط والتوازن، فأنا عربي قرشي من جهة والدي، وعربي مصري وتركي من جهة أمي وجدتها وجدها الثاني. وفي تصوري أن فكرة التوحيد والتنوع يمكن أن تقدم أكبر خدمة لبلادنا لأن لدينا عوائل وروابط مع العالم كله.
• أشرت دون تفاصيل في فترة سابقة عن ملاحظات بشأن قطار الحرمين؟
ــ لست ضد شيء تحديدا لكننا وجدنا أن أفضل استراتيجية للحركة والتي عملنا عليها وهي تشجيع المشي، تطوير النقل الجماعي لمن لا يستطيع المشي، ومنع السيارات الصغيرة والخاصة، ولهذه الدراسات تفاصيل كثيرة أخذ منها كما نقول في مكة «كما تؤخذ الكبابة من رأس القدر». حيث إنه ليس من المنطقي أن يكون لدينا محطات بعدد الأتوبيسات العاملة حاليا في الحج لأن كل أوتوبيس يمثل محطة والخوف أن يتحول الازدحام إلى المحطات. فكيف لنا أن نلتزم بالنظام والاصطفاف والانتظار في عدد محدود جداً من المحطات في زمان محدود جداً من الساعات؟.
• وآخر ما توصلتم إليه بشأن توسعة الطواف؟
ــ يوجد تقرير متكامل عن هذا الأمر يحل الإشكالية بدون داع لإزالة آخر ما تبقى من تاريخ مكة المعماري في المسجد الحالي الذي هو أموي عباسي وليس عثمانيا فقط. وأهميته تبرز معمارياً في حفاظه على النسبة والتناسب بين الكعبة والمسجد الحديث ولا يتعارض مع الازدحام، بل على العكس يمكن أن يكون صمام أمان لتخفيف الضغط على منطقة الطواف، فحتى لو ضاعفنا حجم المطاف إلى الضعف لزاد الخطر أكثر ولما زاد الاستيعاب إلى أكثر من 10 في المائة. وذلك حسب الدراسات العلمية التي قام بها المركز تحت إشرافي، وفي رأيي أن الفتاوى التي صدرت في السنوات القريبة تساعد كثيراً في التوسعة باستخدام عامل الزمان بدلا من المكان فقط.
• طالبت بهيئة للحكماء فما المقصود بها؟
ــ الإسلام هو دين ودنيا وهو فن الحياة. والمطلوب هو الجمع بين كل التخصصات للوصول إلى الحكمة التى هي ضالة المؤمن.
• هناك من يرى أن الصالونات الثقافية العائلية أصبحت فئوية؟
ــ أتحدث عن نفسي فقط، فالمجلس الفكري الذي أعقده في المكية المدنية ليس محدد الاتجاه ولكن ثابت المبادئ. بيتي مفتوح لمن يريد أن يطلع ويشارك ويحاور انطلاقا من سياسة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله في تشجيعه للحوار.
• انتقدت كثيرا عندما نظمت لقاء مع كاثرين هيوز مساعدة وزير الخارجية الأمريكي في بيتك لماذا؟
ــ أولا، أنا لم أنظم أي لقاء، ولم أعد مسبقاً لكل اللقاءات بشخصيات من الخارج، بل إنني اعتبر ذلك خدمة واجبة لوطني، فبيتي جزء من أرض هذا الوطن، وضيوف البلد وضيوف مليكي أتشرف بلقائهم بصفتي المدنية وأوضح الكثير مما يصعب التناقش فيه على المستويات الأخرى. فكل من يدخل بيتي أتعامل معهم في لقاء «الناس للناس والكل بالله». وبذلك نستطيع أن نشارك بجزء يسير جداً بطريقة مبنية على مبدأ «نواة تسند زير». وبالفعل من التجارب الكثيرة التي مررنا بها من وزراء ورؤساء جمهوريات وأعضاء من الكونجرس وأعضاء مع مستويات متنوعة وخاصة في مجال الثقافة والإعلام من الشرق والغرب والشمال والجنوب.
أما بالنسبة لكاثرين هيوز لا أعلم سببا لانتقادي، فهي زارت بلادنا وتم الاتصال بي لرغبتها في زيارتي ومنزلي فرحبت بها وأعتقد أن من يدخل بلادي يحق له أن يدخل بيتي وقبلها وبعدها زارني الرئيس كارتر في زيارتين متتاليتين آخرها كان قبل شهرين. كما زارني أخيراً رجل الكونجرس المسلم كيث إليسون.
• ألم تحرجك مثل هذه الزيارات؟
ــ المفروض أن تحسب لي، فكل من حضر إلى منزلي من أعضاء الكونجرس والمثفقين والسياسيين وخلافهم عبروا عن مشاعرهم بسعادة لما وجدوه من حرية تعبير وحديث عميق عن الثقافة والفكر، بل إن كاثرين هيوز كادت تبكي في حوارها مع أحد الشباب في مجلسي عندما حدثها عن ما حدث في أحد أصدقائه واستشهاده، وأتمنى أن نقدم حسن النية في كل آرائنا عن بعضنا البعض وعن الآخرين.
• لو افترضنا ذلك، فما الذي أردت أن توصله من خلال تنظيمك للسهرة الغنائية التي أسميتها (جاز وحجاز) ؟
ــ الفكرة تعبر عن تلاقح أفكار بين الحضارات وليس فيها مساس بالمجتمع أو إساءة إلى أحد، فهناك فرقة جاز من عادتها أن تلف حول العالم لتطلع العالم على فنها، فاقترح ابني أحمد والشباب في المكية بالتشاور أن نطلعهم على ثقافتنا أيضا. فدعونا فيها بعضا من أهل الفن في الحجاز. فالتقى الجاز بالحجاز وتفاعلت التغمات في حوار للحضارات بدلا من التعارض، فتأثروا كثيرا بنا جدا أكثر مما تأثرنا بهم، كانت جلسة ممتعة عزفوا في نهايتها أغنية يا ريم وادي ثقيف بعد أن تعلموها إثر زيارتهم للموسيقار طارق عبدالحكيم في متحفه.
• وهل كان لقاؤك مع أدونيس يصب في اتجاه المزج بين الثقافات أيضا؟
ــ التقيت أدونيس، وللأسف كانت على عجالة، وتناقشنا فيما قاله حول الثابت والمتحول، وأوضحت له مفهومي «بين الثابت والمتحول القائم على الميزان» ، وأن ما يبدو خارج الميزان متناقضا، يتكامل في الميزان مثل الماء والنار فالماء خارج الميزان ضد ولكنه داخل الميزان مكون من نارين (H2).
• ما مدى صحة ما قاله بعض المقربين منك من أن المهندس يحيى كوشك نشر في كتابه عن زمزم أبحاثا خاصة بكم تحديدا؟
ــ الأبحاث ليست خاصة بي تحديداً، ولكنها أبحاث مركز أبحاث الحج الذي شارك فيها ما لا يقل عن 14 باحثا ومتخصصا في دراسات استمرت سنتين متتاليتين أجريناها بناء على طلب المهندس الكوشك، عندما كان مديرا لمصلحة المياه والمجاري في المرة الأولى 1400 وتجاوبا من اللجنة المشكلة بناء على أمر الملك فهد بدأت عام 1402هـ عند حدوث مشكلة الأنفاق. وقدمت الدراسات لعدد محدود من المسؤولين ومنهم المهندس يحيى كوشك الذي نشرها وشكلت معظم ما صدر في كتاب بعنوان «زمزم» باسمه دون أن يشير من قريب أو بعيد لجهد المركز.
• حتى الأشياء المستخرجة من البئر؟
ــ لا، هذه كانت بجهد منهم فعلا.
• إلى أي مدى حلت مشاكل بئر زمزم؟
ــ عندما تم اقتحام الحرم من قبل الفئة الباغية عام 1400هـ، انقطعت المواتير فارتفع منسوب المياه وغمرت المياه الملوثة البئر فطلب منا دراسة الوضع وقمنا بذلك في شهر ونصف ثم مرت سنتان بعد ذلك فجاءت مشكلة النفق التي نجمت عن قرارات استندت على دراسات من زاوية واحدة وهي تصريف مياه السيول دون النظر إلى الاحتمالات السلبية لمثل هذا المشروع والتي حدثت فعلا فتقاطعت الأنفاق مع التصدعات الجالبة لماء زمزم على عمق 30 مترا من سطح الأرض، وحدثت مشكلة كبيرة وصلت للملك فهد ــ رحمه الله ــ عندما كان وليا للعهد وتم حلها. لكن إن سألتني عن الخطورة التي تواجهها البئر فتكمن في كل تفجير ديناميت ولا نعرف متى تحدث «الطقة» النهائية لأن مياه زمزم عبارة عن تصدع صخري والمياه تخرج من الصخور عن طريق الصدوع. والخطر يأتي من اختلاط المياه الجوفية مع المياه التي خصها الله بوجودها في تصدعات صخرية جرانيتية حدثت من ملايين السنين حتى كانت «همزة جبريل عندما أخرجت زمزم للسيدة هاجر» تتواصل من مئات الكيلو مترات بين التصدعات الصخرية إلى أن تصل إلى بئر زمزم في خصوصية ليس لها مثيل، وكل تفجير في الصخور الآن تمتد آثاره إلى البئر وهذا ما أحذر منه.
حوار : بدر الغانمي