ذاكرة الرواق.. مراجعات لأسئلة النهضة والتحديث في الحجاز

بنبرة عالية يختم حسين بافقيه ( ذاكرة الرواق وحلم المطبعة) العنوان الرئيس لكتابه الذي يجلي صورة شفافة عن ( أصول الثقافة الحديثة في مكة المكرمة) وهو العنوان الفرعي لكتاب يغوص في أروقة القرون الثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر الهجرية ..

ذاكرة الرواق.. مراجعات لأسئلة النهضة والتحديث في الحجاز
فتحت الحداثة أبواب الدنيا وأغلقت دونها أبوابها ونوافذها وهاهي ذي تقف على أطلال ذلك الماضي
 

جدة: محمود تراوري

بنبرة عالية يختم حسين بافقيه ( ذاكرة الرواق وحلم المطبعة) العنوان الرئيس لكتابه الذي يجلي صورة شفافة عن ( أصول الثقافة الحديثة في مكة المكرمة) وهو العنوان الفرعي لكتاب يغوص في أروقة القرون الثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر الهجرية ( الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين الميلادية) فاحصا – حسب تعبيره- عن حركة الثقافة والعلم في التأليف في البلد الحرام، صائدا كل بارقات وملامح ( النجابة) لينقد الآراء التي رآها عنيفة وقاسية وغير منصفة في حق ثقافة تلك الحقبة، وهي ( الفرية الكبرى) بحسب بافقيه التي كانت المعبر الأول لفكر الشبيبة الجديدة من أدباء الحجاز الذين عدوا تاريخيا فيما بعد الرعيل الأول أو ما اتفق على تسميتهم بالرواد من دعاة النهضة والتحديث في الحجاز والذين يجيء في مقدمتهم( محمد سرور صبان ومعه محمد سعيد عبد المقصود وعبد الله بلخير، وعبد الله عمر والعواد والفيلالي والكعكي وغيرهم).

وإذا كان الكتاب الصادر حديثا في طبعته الأولى (2009) عن دار المؤلف في بيروت يشير إلى تجربة عبد الله عبد الجبار واصفا إياه بأنه بداية لتاريخ مولد النقد المنهجي، ليس في مكة، بل في السعودية والجزيرة العربية، بواسطة كتابه ( التيارات الأدبية الحديثة في قلب الجزيرة العربية) فإنه يمكن اعتبار حسين بافقيه امتدادا لتيار عبد الجبار من الباحثين المنهجيين الذين يخلصون كتاباتهم من الآراء الانطباعية ذات اللغة الإنشائية، العاطفية والتبجيلية، ويستبدل ذلك بلغة علمية رصينة إلى أبعد الحدود، وبصورة تكاد تعبر عن استمرار ثمار عبد الجبار ومن جاء بعده من الكتاب الموضوعيين المعينين بالمعرفة والعلم فقط من أمثال الدكتور منصور الحازمي والدكتور محمد الشامخ والدكتور يحيى ساعاتي والدكتور عباس طاشكندي كأميز الأسماء التي تشعرك وهي تخوض في مجالات البحث الثقافي ( الأدبي/ المعرفي) إنها تقدم إضافة للمتراكم بعيدا عن المؤلفات الإنشائية الهزيلة معلوماتيا والرديئة منهجيا وعلميا والضالة معرفيا، والأنكى كارثيا حين تكون منطلقاتها إيديولوجية.

ولأجل ذلك تبدو النبرة العالية - التي قلت بها مفتتحا - مبررة علميا – على الأقل عندي - ذلك لأنها تكونت بعد سباحة عميقة في بحر لجي من عوالم متشابكة لحقبة تاريخية شهدت تحولات عالمية وصراعات شكلت إرهاصات العالم الحديث / الحالي بدوله وهيئاته ومنظماته وإيقاعه السياسي المغاير تماما لما كان عليه الكون في الحقبة التي عني الكتاب بالتقلب في أروقتها المحفوفة بحوائط من لهب وجليد معا في وقت واحد.

حين يختم بافقيه كتابه الموشى بنصوص شعرية ونثرية فريدة ومهمة جدا قدمها المؤلف في سياق دلالي ( بذرت مكة المكرمة أصول الثقافة الحديثة في واديها، ورعتها غراسا، وحنت عليها/ فإذا هي بعد حين عزيزة قوية، وكانت كلما مضت في مستقبل الأيام تزداد وهجا وسطوعا. عرفت من كل فن طرفا، وبرز أبناؤها في صنوف من العلوم والفنون والآداب وبينما وهبت لجزيرة العرب العلم الحديث والثقافة الحديثة والطباعة والصحافة والمدرسة والمعهد والجامعة، وبينما نشأ في ظلال بيتها العتيق معالم السياسة الحديثة)، إلى أن يصل للخاتمة مثيرا أسئلة حول مدى تطابق الرأي النقدي الذي رفعه الرعيل الأول حيال واقعهم، مع ما يقوله بافقيه نفسه الآن ( وبدل أن تمد المدنية والحداثة من حبل التنوع والتعدد فيها إذا بها إلف صوت واحد، وقد عرفت كل الأصوات، وسحنة واحدة ولطالما أنست لكل الوجوه، ورأي واحد بعد أن نخلت كل الآراء، فتحت الحداثة أبواب الدنيا، وأغلقت دونها أبوابها، وكواها ونوافذها وهاهي ذي في حاضرها تقف على أطلال ذلك الماضي فعساها تمسك بطيف من شباب، وقبضة من تاريخ ومسكة من تراث). تلك أمنية بافقيه الآن بينما قبل أن يصل لطرح هذه الأمنية كان قد قال في مقدمته(.. وكما أساغت أروقة المسجد الحرام كتاب سيبويه وألفية ابن مالك لم تجفُ شرح الايساغوجي في المنطق ودلائل الخيرات في التصوف وعرفت معاهد الأدب فيها وسمع من طاف بالبيت على كر الأزمنة واختلاف النهار والليل، شعر عمر بن أبي ربيعة، والعرجي، والشافعي، والتهامي، وابن عربي، وابن الفارض، والبرعي، ومحمد حسن فقي، وطاهر زمخشري، وحسين سرحان، وحسن عبد الله القرشي، وفاروق بنجر، ومحمد الثبيتي). ويلاحظ في الأسماء الأخيرة أنها كلها رحلت لبارئها ولم يبق منها إلا اثنان أحدهما مازال يتعافى في المشفى وهو الثيبتي رفع الله عنه البأس. وإن كان يلاحظ أكثر من خلال تنوع الأسماء تأكيد عملي لما شدد عليه بافقيه وهو يقدم مكة في مقدمته(... وإذا ما قرأت شيئا من غلو، وإذا ما وقعت على ضرب من تشدد، فيما انتهى إلينا من تاريخها، فاعرف أن ذلك مما تأباه طبيعتها، ولا يوافق سنن الاجتماع ونواميس التاريخ، وليس في ذلك افتئات على التاريخ وسننه، فلقد كانت مكة، وما أحاط بها من مدن الحجاز، أنموذجا مصغرا للعالم الإسلامي كله، وما كان لتلك الأعراق والألسنة والثقافات والنحل أن تعيش في جوار البيت العتيق آمنة مطمئنة، لو لم يفسح كل جيل، وكل عرق، وكل ذي نحلة لمن اختلف عنه في كل أولئك، فهذا شرط الحياة في مكة المكرمة، وهذا العقد الاجتماعي الذي اصطلح عليه المكيون في تاريخهم الموغل في القدم). ويفصل أكثر بافقيه مبينا أثر هذا التعايش الإيجابي على المجتمع كصورة ناصعة لما لخصه حول التنوع، والسماحة، وصورة أخرى لما انتهى إليه العلم العربي والإسلامي في فجره وضحاه وظهره (فإلى مكة المكرمة تحج الأفكار والكتب كما يحج إليها من استطاع سبيلا، وفي مكة تختلف العقائد ولا تتخاصم، وتزدحم الأفكار ولا تتنافى) ما جعل مكة تعرف بأنها (كانت مركزا عظيما من مراكز العلم في تاريخ الإسلام، في صعوده وهبوطه، وظلت أمينة على تلك العلوم التي اشتهر بها أعيان من أبنائها ومن حل بواديها من المجاورين، فارتقت فيها علوم القرآن، والفقه، وأصوله والحديث واللغة والنحو والعروض والبلاغة والتصوف والفلسفة والمنطق والفلك والطب والصيدلة. كل ذلك وسواه كان مألوفا معتادا في مسجدها الحرام عرف ذلك المسلمون جيلا بعد جيل).

أما التعايش بين المذاهب السنية الذي حققه التنوع المذهبي بحسب رؤية بافقيه، جعل مكة( بيئة ممتازة للدرس الفقهي، وأضحى الحرم ملاذا لعلماء العالم الإسلامي، يجدون في رحابه بيئة للتنافس العلمي ). وهنا يلفت بافقيه إلى نقطة غاية في الأهمية حين يتابع قائلا ( جدّ العلماء في ترسيخ المذاهب التي يعتزون إليها، ولكن ذلك لم يبلغ مبلغ الصراع، وآية ذلك ما نجده من عبّ نفر من العلماء من المذاهب الفقهية السنية الأربعة، وتحول آخرين من مذهب إلى آخر" الدحلان كان حنفيا ثم رجع إلى الشافعية"، واختلاف مذهب الابن عن أبيه" السنبل كان شافعيا وخلف أبناء ثلاثـة كلهـم أحناف").

يثير الكتاب جملة لا تنتهي من الأسئلة والقضايا الحفية بتصعيد النقاش والجدل العلمي حولها، ولا أحسب أن مؤسسة ثقافية أجدر من نادي مكة الأدبي يفترض أن تنهض بدور كهذا في الاحتفاء بكل ما يكتب عن مكة.