سيدة الأرض من السماء
ينتاب قارئ كتاب «مكة المكرمة من السماء ـ الماضي والحاضر» شعور طاغ بأن ما بين يديه أقرب إلى ديوان شعر مفعم بالحنين إلى أمكنة ومرابع ذكرى أول حبيب ومنزل، ما يؤهله أن يكون معلقة للألفية الثالثة، لكن هذه المرّة، بلغة الصورة وفن حبس الضوء، بلا غواية أو غاوين في حبّ مكة!
مكة المكرمة - عمر المضواحي، طلال لبان
ينتاب قارئ كتاب «مكة المكرمة من السماء ـ الماضي والحاضر» شعور طاغ بأن ما بين يديه أقرب إلى ديوان شعر مفعم بالحنين إلى أمكنة ومرابع ذكرى أول حبيب ومنزل، ما يؤهله أن يكون معلقة للألفية الثالثة، لكن هذه المرّة، بلغة الصورة وفن حبس الضوء، بلا غواية أو غاوين في حبّ مكة !
كل لقطة بانورامية من الكتاب تعكس قصيدة عشق خاص تدعو إلى التحليق عاليا في بهاء سماء مكة، والسباحة في مكامن أسرارها، والغوص في لجج ذكريات الأمس، ومقاربتها مع ورش عمل التطوير والتجديد، بين الأصالة والمعاصرة، واستشراف صورة الغد المنتظر. ثمة لقطات لأمكنة عدة تفيض غصّة حدّ التوجع للمكيين، وأخرى تملأ كؤوس الفخار بالمكان. وبين هذه وتلك يعيش القارئ بين دفتي الكتاب وألبوم صوره المنوعة حالة عواطف جياشة تفوح بلهفة الشوق لمرابع أم القرى وسيدة الأرض، بجوارها وجبالها وشعاب أوديتها وبطاحها المقدسة.
إهداء الكتاب حمل لفتة حميمية بتخصيصه إلى «كل من سار في بطاح مكة وأوديتها وأزقتها وشوارعها عبر الزمن، وأعطاها ما تستحق من عبادة وعناية». ومن هنا تبدأ الحكاية:
في منزله العامر، جلس الدكتور معراج مرزا يحكي عن إرهاصات البداية، وما رافق لحظة تخلّق فكرة الكتاب، وعلقة تكونه في أحشاء جامعة أم القرى، حتى استوى خلقا كاملا في رحم المطابع، ليدشن الليلة في حفل جماهيري عام، وفي أحسن تكوين مادة وإعدادا وتنفيذا..
يقول:
لكل كتاب حكاية وقصة تروى إلا هذا الكتاب؛ فهو يختصر حياة كل من عاش في مكة، ويلخص الحنين والشوق، واللقاء والهيام، ووداع الأمكنة إلى لقاء آخر متجدد تباعا. الفكرة قديمة جدا، فلدي مجموعة كبيرة وخاصة من الخرائط والصور القديمة لمكة اقتنيتها طوال عقود من الزمن من الداخل، وخلال رحلاتي الخارجية أيضا.
من بين هذه المجموعة الكبيرة، كان بحوزتي أول صور جوية عامودية لأغراض مساحية لمكة المكرمة التقطت في عام 1385هـ (1965م) بواسطة شركة فيري سيرفي Fairy Survey البريطانية بتكليف من مكتب تخطيط المدن بوكالة وزارة الداخلية للشؤون البلدية آنذاك. أكملتها لاحقا بصور جوية لنفس الفترة تقريبا 1386هـ (1966م) من مصلحة المساحة الجيولوجية الأمريكية USGS. واحتفظت بهذه المجموعة ككنز ثمين ينتظر لحظة الاكتمال لرؤيتي المسبقة للكتاب، بل وكنت أرغب في نشر صور قديمة مع أخرى حديثة تقابلها، تمكن القارئ من عقد مقارنة بين الماضي مع الواقع الحالي لأم القرى. أضاف: انتظرت أحلم طوال هذا الوقت بحصولي على نسخة جوية جديدة لمكة المكرمة. قبل سنوات وتحديدا في عام 1427هـ (2007م) جرى تصوير جوي ثلاثي الأبعاد لمكة المكرمة بتقنية حديثة عالية الجودة (بكتومتري) في زمن الأمير عبدالمجيد بن عبدالعزيز رحمه الله، وبتكليف من هيئة تطوير مكة المكرمة والمدينة المنورة السابقة لشركة بكتومتري Pictometry العالمية. وتوفرت نسخة كاملة ببعد واحد فقط، لدى أمانة العاصمة المقدسة، وبمساعدة المسؤولين ـ حصلت على نسخة كاملة منها.
عندها اطمأن قلبي، وبدأت التفكير والعمل على إخراج فكرة كتاب مكة المكرمة من السماء إلى أرض الواقع، ووضع المقارنة بين الماضي والحاضر. وأعتقد الآن أن كتاب مكة من السماء هو أول كتاب يضع مصورات جوية قديمة وحديثة معا لمدينة في العالم وبفاصل زمني يمتد لخمسين عاما، مع مقارنة بينهما، وباللغتين العربية والإنجليزية معا.
مقترح الفيصل: 10 لوحات لمكة 2014 من الفضاء
أشار الدكتور معراج مرزا إلى أن مستشار خادم الحرمين الشريفين أمير منطقة مكة المكرمة خالد الفيصل كان أول من شاهد مسودة الكتاب في سبتمبر الماضي، وحاز إعجابه الشديد، وتوقف طويلا أمام عدد من صور الأمكنة والمواقع، واسترجع ذكريات نشأته ومرابع صباه وشبابه في مكة المكرمة.
وأضاف ميرزا أن الفيصل وجه بأن يتضمن الكتاب 10 لوحات إضافية من الصور الفضائية توضح معالم مكة المكرمة في عام 2014م.
وتم الأخذ بتوجيهه الكريم، وأضيفت بعض الصور الفضائية الحديثة أخذت في عام 1435هـ (2014م) لمواقع بارزة محددة، فرضتها التغيرات المكانية المتسارعة الحالية، ضمن مشروع الملك عبدالله رحمه الله لتوسعة المسجد الحرام وإعمار مكة المكرمة. ليصبح الكتاب في شكله النهائي مجموعة من الصور الجوية والفضائية لمعالم ومواقع مختارة في مكة المكرمة في فترات زمنية مختلفة، تبرز بعض سمات التغير والاختلاف عبر الزمن القصير، وما شهدته مكة خلال نصف القرن الماضي.
مع شروحات موجزة مبسطة لمعالم المكان باللغتين العربية والإنجليزية.
148 شيفرة لذاكرة الأمكنة المكيّة
تحمل مقدمة الكتاب إشارات متوسعة عن أهمية هذا الإصدار للأجيال القادمة. ومما جاء فيها: «تأتي أهمية هذا الكتاب بما يحتويه من شيفرات لذاكرة الأمكنة المكيّة. فمن النادر جدا أن أتيحت مشاهدة مكة من السماء، أو حتى على ارتفاع شاهق، يتسم بالشمولية وتعدد زوايا الرؤية من منظور مكاني وزماني في آن واحد».
يختم مؤلف الكتاب الدكتور معراج مرزا مقدمته بالقول: «يأتي هذا الجهد المتواضع جدا في حق المكان، علّه يمثل بصيص أمل في تحريك الساكن في هذا المجال، ومن ثم بلورة وتفعيل جوهر البعد الثقافي الحضاري لهذا الكيان الخالد على مدى الزمان. ومن ثم يكمل جهودا أخرى ملموسة في نبش الذاكرة المكية، وعرضها للجيل الحاضر».
قناعة مشتركة
ويقول الدكتور معراج مرزا وهو يعمل حاليا كأستاذ زائر بمركز التحليلات الجغرافية في جامعة هارفارد الأمريكية: كانت رسالتي وزميلي الدكتور رمزي بن أحمد الزهراني أستاذ الجغرافيا البشرية في جامعة أم القرى تنطلق عند وضع خطط إنتاج هذا الكتاب، من قناعة مشتركة بعد أن قضينا جل حياتنا في مكة المكرمة، عاملين بها، طموحين إلى أبعد ما يكون الطموح. فمكة أعطتنا بسخاء منقطع النظير، ولها علينا حقوق وواجبات، لا بد لنا من الوفاء ولو بنزر يسير منها. وأضاف: انطلقنا معا بإيمان راسخ أن لأجيال المستقبل حقوقا على الجيل الحاضر، لا سيما من عاصر ما عاشه المشهد المكي من تغيرات، ظلت القلوب معلقة بها، جديرة بكل عناية وتوثيق بأشكال تواكب طموحات المتلقي الحالي، المنغمس حتى النخاع في بيئة وثقافة الصورة المرئية، بعيدا عن نصوص تقليدية وصفية مجردة، تراجعت في خضم شيوع ثقافة الاختصار في النصوص والاتكاء على المزيد من الصور.
التطابق التام
ويتابع: إن جميع الصور القديمة والحديثة في الكتاب وعددها 148 صورة، تمت معالجتها فنيا وبدقة كاملة، بحيث راعينا أن تكون جميعها بنفس الإحداثيات بعد رفعها، وبشكل متطابق تماما. كان من الصعوبة العمل على الصور الجوية القديمة وتعديلها جغرافيا بعد تحديد اتجاه الشمال فيها لتتناسب مع الصور الجديدة، وقصهما معا بنفس الإحداثيات للتطابق التام. وهذه كانت مساهمة ابني محمد المهمة في هذا الكتاب.
وأكد الدكتور معراج على أن هدفه الأساس هو تكوين مكتبة عن مكة المكرمة، فعندما يسافر أي إنسان إلى أي مكان في العالم سيجد مئات الكتب عن هذا المكان. في مكة، الوضع مختلف، تجد مئات الكتب التاريخية القديمة، ولكن الإنتاج الفكري الحديث للأسف قليل جدا. وهذا ما جعلني أندفع في هذا المجال منذ أن بدأت دراستي للماجستير في عام 1977م في أمريكا.
منتج الكتروني
ويختم حديثه: نتوق بعد أن صدر الكتاب الآن وبمساعدة ابني محمد طالب الدراسات العليا والمتخصص في علوم الحاسب الآلي في أمريكا، أن نتمكن من تحويل هذا العمل إلى منتج الكتروني تفاعلي على الهواتف الذكية والأجهزة الالكترونية الأخرى، ليسهل على الجيل الجديد الاطلاع عليه، والتفاعل معه.
«أم القرى» تدشن الليلة كتاب مكة من السماء ـ الماضي والحاضر
ترعى جامعة أم القرى بحضور مديرها الدكتور بكري بن معتوق عساس في الثامنة والنصف مساء اليوم في قاعة الملك عبدالعزيز التاريخية حفل تدشين كتاب (مكة المكرمة من السماء: الماضي والحاضر) بعد أن وزعت رقاع الدعوة العامة لحضور المناسبة.
وفي مقدمة الكتاب أشار عساس إلى «أن تقديم جامعة أم القرى لهذا الكتاب هو جزء من مواصلة الجامعة لرسالتها والتزاماتها نحو المساهمة الفاعلة في البحث العلمي وخدمة المجتمع، وإجراء البحوث والدراسات عن مكة المكرمة، وإثراء المكتبة المكيّة بمزيد من الأعمال العلمية التوثيقية».
ووصف الكتاب بأنه « أحد الأعمال الإبداعية المميزة لما اشتمل عليه من نصوص وصور جوية مختلفة تضرب بجذورها في الماضي الذي كان، وتعيش الزمن الحالي الحاضر، وتتطلع نحو غد طوح لا يحده خيال».
من جهته يشير الدكتور معراج مرزا إلى أن هذا النوع من المطبوعات مكلف جدا، و»كشخص لا أستطيع بمفردي إخراجها إلى حيز الوجود بالشكل الذي أريده، كما لا أستطيع بيعها وتسويقها بعد الطباعة من دون رعاية ودعم الجهات المتخصصة».
من جهته أفاد وكيل الجامعة للأعمال والإبداع المعرفي الدكتور نبيل كوشك أن الكتاب يعد إسهاما متميزا وغير مسبوق في موضوعه ومجاله، ويسهم بفاعلية في إثراء التفكير الإبداعي القائم على الوصف والتحليل والمقارنة إلى جانب معالجته التحليلية لسمات ومعالم المشهد المكاني في مكة المكرمة وغيرها.
وأكد أن هذا العمل ينطلق من دور الجامعة في تشجيع البحث العلمي وخدمة المجتمع بمفهومهما الواسعين، لافتا إلى أن هذا الكتاب يعد استمرارا لإسهامات أخرى تبنتها جامعة أم القرى كمؤلف «أطلس خرائط مكة المكرمة» .