تطوير يهز الوقار

يفتقد المتجول في مكة المكرمة الآن جبالها التي طالما كان لها وقع معنوي كبير لدى المكيين، فمنها المرتبط بالتاريخ الإسلامي، ومنها ما تأصل في التراث المكّي لواد غير ذي زرع زادته جباله رصانة ووقارا.

يفتقد المتجول في مكة المكرمة الآن جبالها التي طالما كان لها وقع معنوي كبير لدى المكيين، فمنها المرتبط بالتاريخ الإسلامي، ومنها ما تأصل في التراث المكّي لواد غير ذي زرع زادته جباله رصانة ووقارا.


فركام الصخور المتكسرة طمس ملامح مكة المكرمة بعد أن كانت تميزها جبال تحتضن بيوتا تبعث في نفوس من تقع أعينهم عليها أحاسيس مختلفة ما بين متعة العيش في أماكن مرتفعة تكشف البقعة المقدسة بالكامل، وآخرون يتخيلون جمال الأجواء بعيدا عن شوارع المدينة وزحامها.


وتركت إزالة جبال مكة المكرمة في النفس حزنا من نواح متعددة أهمها تغيّر شكل المدينة بالكامل واختفاء شعابها وأزقتها القديمة، بينما أثارت مخاوف كثيرين من انكشاف المدينة وجعلها عرضة لمجاري السيول بعد أن كانت رواسيها بمثابة حصن منيع يصد عنها سيول مياه الأمطار.


ولنسف تلك الجبال أقاويل متضاربة مصدرها عدة جهات خدمية في العاصمة المقدسة، فبين تطمينات لبعضها بشأن عدم تأثر البنى التحتية لمكة المكرمة وتأكيدات من مسؤولين على استخدام التفجيرات وآثارها الممتدة إلى النطاق السكاني، في حين يقف المكّي على أطلال أوتاد مدينته، يحاول تقبّل مشاهد مبان حديثة تحل محلها.

تغيير الجغرافيا

وجاءت تحذيرات المدير العام لفرع الرئاسة العام للأرصاد وحماية البيئة الدكتور عبدالله الجازع، شديدة اللهجة من محاولات تغيير جغرافية المواقع على خلفية ما ينتج عنها من آثار بيئية ضارة.


ويقول لـ”مكة”: لم تطلب منّا أية دراسات أو بحوث حول تلك الآثار البيئية الضارة بشكل مستفيض، إلا أن أي تغيير في جغرافية المكان يعد ضارا بالبيئة، وصخور الجبال غالبا ما تكون مشبعة بالأيونات التي إذا ما انبعثت فإنها تؤثر سلبا على المنطقة المحيطة بها.

تفجيرات مستمرة

رغم محاولات الجهات المعنية لنفي استخدام التفجيرات داخل النطاق العمراني، يقول أحد المسؤولين في بلدية أجياد بالقرب من المنطقة المركزية للحرم المكّي، إن الجبال تزال بالتفجير، مستشهدا على ذلك بإلغاء نفق الملك فهد الواقع جهة كدي عن طريق التفجير.


ويقول: وقفت على عدة عمليات من هذا النوع، حيث تغطى المنطقة المراد تفجيرها بشرائط مطاطية لمنع تطاير الشظايا، غير أن ذلك لا يمنع تأثر منازل الساكنين حول تلك الجبال.


ويصنف تأثير التفجيرات على البنية التحتية بحسب نوع الجبال المزالة، موضحا أن هناك جبالا كثّانية هشة يمكن تفتيتها بالمعدات العادية دون وقوع أية تأثيرات، ولكن في المقابل ثمة صخور قاسية يتطلب تفجيرها وينتج عنها جريان للأتربة وبالتالي تحدث تأثيرات على النطاق السكاني المحيط بها.

تغطية أمنية

وردّ الناطق الإعلامي في شرطة منطقة مكة المكرمة المقدم عاطي القرشي، على قضية إزالة الجبال بالتفجيرات قائلا: عند مرحلة التنفيذ يُستخدم نظام التفجير الحذر في عمليات الإزالة مع مراعاة نوعية المواد المتفجرة المستخدمة وذلك بعد إخلاء الموقع وتغطية حقل التفجير مع توفير أحدث وسائل السلامة.


وأبان بأن عمليات إزالة المباني والجبال بالمواد المتفجرة في محيط أحياء العاصمة المقدسة تتم وفق ضوابط أمنية وفنية تحت إشراف خبراء ومختصين، مؤكدا أن تلك العمليات تشترط موافقة الأمن العام والجهات الأمنية الأخرى ذات العلاقة وأمانة العاصمة المقدسة بعد إصدار تقارير هندسية تفيد باحتياج الإزالة للتفجيرات.


جير حي يفتت الجبل بين ليلة وضحاها

يؤكد المسؤول عن عمليات إزالة الجبال في شركة بن لادن المهندس عبد المعز الهنداوي، استخدام طريقة آمنة لهدم الجبال، لافتاً إلى عدم استخدام التفجير داخل البلد واقتصار استخدامه في مشاريع أطراف مكة المكرمة البعيدة عن النطاق العمراني.


ويقول لـ”مكة”: الطريقة الجديدة الآمنة تتمثل في تخريم الجبل بآلة الحفر وملء الفجوات بمادة مكونة من أكسيد الكالسيوم تسمى “الجير الحي”، وهي مادة تتمدد لدى خلطها بالماء، وتفتت الصخور إلى أجزاء صغيرة، لافتاً إلى أن هذه المادة تستغرق ما بين 8 ساعات و10 لتعطي التكسير المطلوب، لذا تحقن الجبال بها في الليل كي تتسنى إزالتها في النهار عن طريق المعدات والحفارات.


ويضيف الهنداوي: تلك الطريقة لا تؤثر في المنازل الموجودة حول الجبال المراد إزالتها، إلا أن المساكن القديمة قد تظهر على جدرانها بعض التشققات، إلا أن أمانة العاصمة المقدسة تعوّض مالكيها فوراً.
ويشير إلى أن الجير الحي لا يؤثر مطلقاً في البنية التحتية، خصوصاً أنه يكسّر الجزء المطلوب تكسيره فقط، بخلاف التفجير الذي قد يمتد إلى أعماق أكثر.


وزاد: ربما نلجأ إلى التفجيرات ولكن كآخر الحلول بعد تجربة التكسير اليدوي ثم المادة الجيرية.

تفجير محدود

وبيّن الهنداوي أن التفجيرات المستخدمة في نسف الجبال “محدودة”، وتتم بإشراف قوى أمنية تابعة للشرطة، حيث يتم إحداث ثقوب في الجبال توضع فيها كبسولات المادة التفجيرية والتي يتراوح وزنها ما بين 5 جرامات و10، ثم توصل بجهاز التفجير وتفجّر في وقت واحد.


وأشار إلى أن هناك شركات حاصلة على تراخيص أمنية من الجهات المعنية، وتزود بالمواد التفجيرية من مخازن تعود ملكيتها للشرطة، وذلك وفق الكميات المطلوبة فقط، ولا يتم توزيع الكبسولات إلا بإشراف مباشر من الجهات الأمنية، موكداً عدم وجود تأثيرات على النطاق السكاني، لأنها تفجيرات محسوبة بالزمن والمسافة.

تعويضات المتضررين بلا إجراءات تنظيمية

ذكر مساعد أمين العاصمة المقدسة للمشاريع التطويرية المهندس عارف قاضي أن تعويضات أصحاب البيوت المتضررة من إزالة الجبال تخضع لعدة عوامل، منها الحالات الهندسية لكل منزل.
وقال لـ”مكة”: لا توجد إجراءات تنظيمية للتعويضات، إلا أن المتضرر يحق له التعويض، ومعظم الحالات يتم حلّها بالتراضي بين جميع الأطراف ولا توجد مشكلات واضحة في هذا الأمر.


إزالتها تزيد من مخاطر السيول

حذّر مدير إدارة الدفاع المدني في العاصمة المقدسة العميد سامي حميّد الجدعاني من الآثار السلبية الناجمة عن القطوع الصخرية لجبال مكة المكرمة، لافتاً إلى أن إدارته مسؤولة عن جوانب السلامة أثناء عمليات الإزالة بالتفجيرات.


وقال لـ”مكة”: هذه القطوع الصخرية أدت إلى تجمع مياه الأمطار واندفاعها من أعالي الجبال بكميات كبيرة ومتماسكة، بينما في السابق كانت تتدفق نحو الأسفل بكمية مناسبة وقليلة جداً، مما يقلل من خطورة اندفاعها.
ولفت إلى أن دوريات السلامة الميدانية تعمل على متابعة كل المواقع، وفي حال وجود ملاحظات يتم رفعها للجهة المختصة بشرطة العاصمة المقدسة، حيث إنها المشرفة على الأعمال بتلك المواقع.


وأضاف: الدفاع المدني جهة من ضمن الجهات المختصة بإصدار تصاريح شركات تفتيت الصخور، إضافة إلى كل من أمانة وشرطة العاصمة المقدسة والجهات المعنية ذات العلاقة، كل بحسب اختصاصه.


وأشار الجدعاني إلى أن الدفاع المدني يختص بمتابعة توفير وسائل السلامة بمواقع تلك الشركات خصوصاً المستودعات والتي يلزم أن تكون خارج النطاق العمراني، أما فيما يخص كيفية تزويد تلك الشركات بالمواد التفجيرية فهناك جهات مختصة مشرفة على هذه الأعمال يمكن من خلالها معرفة إجراءات الحصول على تلك المواد.


وتابع: من خلال المتابعة الميدانية على تلك المواقع لم يتم رصد مخالفات تخص الدفاع المدني، وفي حال وجود مخالفات يتم التعامل معها وفق لائحة النظر في مخالفات نظام ولوائح وتعليمات الدفاع المدني، أما خلاف ذلك فيحال لشرطة العاصمة المقدسة حسب الاختصاص.


الأمانة: تصاريح رسمية لاستصلاحها

وتحذيرات من قصها دون أسس هندسية

حذرت جهات هندسية من خطورة المساس بجبال مكة وقصها بحجة أن ذلك يعدّ تهديدا واضحا لقشرة الأرض، واصفة تلك المحاولات بـ “الجائرة” وغير المبنية على أسس هندسية سليمة.


وقال عضو شعبة العمارة بالهيئة السعودية للمهندسين، المهندس عبدالله جبر إن قص الجبال في مكة عملية جائرة بسبب قلة خبرة الإدارات والأقسام القائمة على عمليات القص، وعدم توظيف وتوطين المهندسين الأكفاء في أهمية التعامل مع تلك المواقف الهندسية الدقيقة ومدى إرهاصاتها على البيئة والتنوع الجغرافي.


وأبان جبر أنه يجب الاستفادة من الكفاءات الهندسية التي تسعى لاتساق المشهد الجمالي والثقافي والهندسي للعاصمة المقدسة، والتعامل مع المواقع المنبسطة، مبديا استياءه من التصاميم الهندسية التي يجري تصميمها خارجيا دونما إيغال العقلية الهندسية الوطنية في تفاصيلها.


وقال إن قشرة الأرض مهددة في مكة بفعل تآكل جبالها، وكلما قصصنا الجبال كلما أضعفنا قشرتها الداخلية.


من جهته أكد المستثمر العقاري خالد الحارثي أن طبوغرافية مكة دفعت بكثير من المستثمرين نحو تشويه الأشكال الجمالية لسلسلة جبال مكة التي تعدّ من الناحية التاريخية من أهم المناطق في المدلولات والاستنتاجات والاستثمار.


وأفاد الحارثي أن جبال مكة المكرمة تشكل ركيزة أساسية في طبيعتها الجغرافية خاصة في المناطق المركزية والتي تعدّ هدفا لكثير من رؤوس الأموال التي تعمد عادة إلى إيجاد تكتلات مالية في سبيل الظفر بجبل وتسويته عن بكرة أبيه، مشيرا إلى أن جمال الجبال المكية مهدد بالفعل ويقود نحو تشويه المنطقة برمتها بصريا.


وفضل الحارثي إيجاد لجنة تعنى بجبال مكة لحمايتها حتى لو كان من باب فتح الاستثمارات، وذلك للأهمية التاريخية والاستراتيجية لهذه الأماكن.


في المقابل أوضح أستاذ التاريخ المعاصر، سعد الجودي الشريف أن جبال مكة تشكل ركيزة أساسية في التركيبة الجغرافية للمنطقة، إضافة إلى دورها التاريخي على مر العصور والأزمان، حيث تحتضن مكة المكرمة أول جبل وضع على الأرض، وهو جبل أبي قبيس، إضافة إلى جبل النور الذي يعرف بمهبط الوحي، وجبل ثور الذي حوى النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر في بداية الهجرة النبوية الشريفة.


وأضاف أن الجبال ترسم اللوحة الأساسية للواجهة الرئيسة لمكة المكرمة لكثرتها وغلبتها على الطابع التضاريسي للمدينة، إلا أن تلك الجبال بدأت تعاني في الآونة الأخيرة آثار معاول الهدم التي لا تبقي ولا تذر حتى بجوار الحرم والمنطقة المركزية التي طالما حفظت لمكة معالمها وتاريخها الذي احتفظت به عصورا طويلة، ما أسهم في وجود فجوة كبيرة، وخطرا أكبر على المرحلة التاريخية التي تمر بها مكة هذه الأيام، والتي قد تتسبب في انعطاف تاريخي في مسيرة مكة الجغرافية، إضافة إلى التركيبة السكانية التي اعتادت تضاريس معينة، لتتغير في فترة زمنية وجيزة، دون رجوع أو استشارة لمن يعنون بالتركيبة الديموغرافية لمكة.


إلى ذلك قال مصدر في أمانة العاصمة المقدسة إنه لا مساس بتاريخية جبال مكة وإن الأراضي المستصلحة من الجبال تحصل عن طريق إصدار تصاريح رسمية ووفق المخططات الهندسية السليمة.