مغالطة علمية
إشارة إلى ما نشر بـ«مكة» في عدديها العاشر والثامن عشر بتاريخ 29،21 ربيع الأول 1435هـ حول بئر طوى، أود أن أوضح أن الأمر يعود في أصله إلى تقرير علمي قمت بإعداده عن المسار الذي سار فيه سيدنا المصطفى عليه الصلاة والسلام أثناء فتح مكة المكرمة
- عدنان محمد الشريف عضو هيئة التدريس بقسم التاريخ بجامعة أم القرى
إشارة إلى ما نشر بـ«مكة» في عدديها العاشر والثامن عشر بتاريخ 29،21 ربيع الأول 1435هـ حول بئر طوى، أود أن أوضح أن الأمر يعود في أصله إلى تقرير علمي قمت بإعداده عن المسار الذي سار فيه سيدنا المصطفى عليه الصلاة والسلام أثناء فتح مكة المكرمة، وذلك بناءً على تكليف من معهد خادم الحرمين الشريفين لأبحاث الحج بالتنسيق مع مجموعة يتصدرها الدكتور فائز جمال، وهم مجموعة المبادرة، وبعد أن قدمت التقرير العلمي المطلوب، طلب الإخوة أعضاء المبادرة عقد ورشة عمل لمناقشة التقرير، حيث حضرتها مجموعة من الإخوة المتخصصين المهتمين بالموضوع ذاته، ومن ضمنهم الأخ عمر المضواحي، معد التقرير للصحيفة.
وقد كنت أود ألا يُزَج بالموضوع في أتون الصحافة، وكنت أرجو من أصحاب المبادرة قبل أن يذهبوا في هذا الاتجاه، التنسيق مع معهد خادم الحرمين الشريفين لأبحاث الحج، خاصة الفريق الذي أعد هذا التقرير.
لقد ترتب على طرح الموضوع بالصورة التي ذكرت، أن انغمس فيه من هم ليسوا من أصحاب الاختصاص، فتصوروا الأمر بغير حقيقته، واتخذ بعضهم مواقف لا تنسجم من أدب الاختلاف وثقافة الحوار، و»تطاولوني» وزملائي معدي التقرير بالهمز واللمز، فخرج الأمر عن سياقه واتخذ مساراً آخر لن ألج فيه بأي حال من الأحوال.
ولكن كان لا بد لي من توضيح المسألة وأبعادها، خاصة بعد أن ألح علي بعض زملائي وطلبتي لتوضيح هذا الأمر بما لا يخرجه عن الحوار والنقاش العلمي البناء الذي يهدف إلى استجلاء الحقيقة والكشف عن أبعادها بما يمكن من الوصول إلى التصور الحقيقي حول هذا الأمر.
وهنا أود أن أشير إلى أنني، وبفضل من الله عز وجل، فقد تتلمذت في جامعة أم القرى على يد نخبة من العلماء الكبار والمؤرخين الأجلاء، وكان من أبرز ما تعلمته منهم -رحمهم الله تعالى- هو التجرد في البحث والبعد عن الهوى أو التأثر بالقناعات الشخصية، فالحقيقة المجردة هي المطلب والمبتغى، وهي تنبثق من البراهين والأدلة وفق المناهج المتبعة عند المؤرخين، ولا ضير عندي من التراجع عن نتيجة وصلت إليها إذا ثبت لي غيرها.
وبناء على ذلك، أود أن أوضح الآتي:
1 - إن علم التاريخ له مناهجه وأصوله في البحث والتقصي، وإن تداخل مع علوم أخرى، فإنه يفيدها ويستفيد منها، وفيما يتعلق بالحوادث التاريخية يكون مقدماً على غيره من العلوم، وإلغاء هذا العلم في هذا الجانب، يعني عدم الإقرار بما كتبه المؤرخون عن تاريخ الأمة وحضارتها، بما في ذلك سيرة سيدنا المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام، وهذا لا يستقيم مع طبيعة العلوم ومناهجها.
2 - ينقسم تاريخ ذي طوى إلى مرحلتين، الأولى تمتد من قبل الإسلام حتى القرن الحادي عشر الهجري، وفي هذه المرحلة كان ذو طوى عبارة عن مكان يتخلله واد يحمل المسمى ذاته، فهذا هو التعريف الذي ورد عند معظم المصادر التي اطلع عليها الباحث، ولم يُشر فيها إلى البئر بهذا المسمى لا من قريب أو من بعيد.
ويلاحظ من خلال تتبع ما ذكرته المصادر عما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بذي طوى، أنها عملت على البحث والتدقيق في موضع مبيته بذي طوى، ومصلاه، وعلاقة ذلك بالمسجد الذي بني هناك، مع التأكيد على اغتساله بذي طوى، فهذا ما نجده في كتب التاريخ المكي المعتمدة، كالأزرقي والفاكهي والفاسي وغيرهم، كما نجده عند الرحالة كابن جبير والعبدري وغيرهما.
أما المرحلة الثانية والتي تعود وفقاً للنصوص التاريخية إلى مطلع القرن الثاني عشر الهجري وربما ما قبل ذلك بقليل، فقد ورد ذكر ذي طوى كبئر في المصادر التاريخية والرحالة الذين يعودون لتلك الفترة، وهذا مؤشر أن في الأمر لبسا كبيرا، ولذلك قلت إنني لا أنفي ولا أثبت، وأن هناك شكا كبيرا يحوم حول هذه البئر.
3 - بالنسبة لاغتسال النبي صلى الله عليه وسلم بذي طوى، فهذا أمر لا شك فيه، وتكاد تجمع عليه النصوص في المصادر المختلفة.
واستمر الاغتسال بذي طوى يفعله كثير من المسلمين في عصور مختلفة، بيد أن اغتسال النبي صلى الله عليه وسلم كان في ذي طوى المكان، بمعنى الوادي وما يحيط به، وقد حددت المصادر في ذلك الوقت موضع مبيته صلى الله عليه وسلم، وهو موضع غير موضع البئر الحالية، ومن المرجح أن اغتساله صلى الله عليه وسلم كان في موضع مبيته أو بالقرب منه.
أما بالنسبة للبئر التي جيء منها بالماء فإن معظم المصادر لم تحدد مصدر الماء، ومن حاول أن يحدده ذكر بأنه جيء به من آبار الزاهر دون أن يحدد بئراً معينة، في حين أن هناك روايات تذكر بأن سيدنا المصطفى صلى الله عليه وسلم شوهد بجوار بئر تعرف بابن عنبسة أو عنبسة، وهي بئر لا تقدم المصادر التاريخية تحديداً دقيقاً لموضعها، ويظهر أن سبب ذلك اختفاؤها وانقطاع خبرها، وإن كان يفهم مما ورد عنها أنها قريبة من موضع مبيته صلى الله عليه وسلم في ذي طوى، وهو غير موضع بئر ذي طوى الحالية.
4 - إن إسقاط المعلومات التاريخية الواردة في المصادر المختلفة عن ذي طوى المكان على ذي طوى البئر، يعد مغالطة علمية، وكذلك استخدام أدوات التحليل الجغرافي، فإن بناء تصور تاريخي يتعارض مع النصوص التاريخية الواردة في المصادر المعتمدة، يعد استخداماً في غير موضعه.
5 - هناك بئر تسمى طوى حفرها عبد شمس بن عبد مناف، تقع في أعلى مكة، كما هو موضح في المصادر التاريخية، ولا علاقة لها على الإطلاق من الناحية المكانية بموضع البئر الحالية، والربط بين البئرين لا يستقيم من الناحية العلمية.
وفي الختام أتمنى ألا يخرج الحوار في هذا الموضوع عن دائرة الدراسة العلمية التي تهدف إلى الوصول إلى الحقيقة، ويظل الاحترام والتقدير ديدن هذا الحوار وإطاره الذي يحكم توجهاته.