جبل غراب يستريح من مخالفي الـ 40 عاما

بعد 40 عاما من العشوائية، استعاد جبل الغراب القريب من المسجد الحرام، لونه الأسود بإزالة آخر عقار مخالف فيه أمس

بعد 40 عاما من العشوائية، استعاد جبل الغراب القريب من المسجد الحرام، لونه الأسود بإزالة آخر عقار مخالف فيه أمس، ليصدر عشوائيته ومخالفيه وأنقاضه إلى الأحياء الملاصقة له فالجبل الذي خصص ليحتضن أكبر مسجد يحمل اسم خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز ضمن مشروع الطريق الموازي، كان ملاذا لمدة نصف قرن لمخالفي نظام الإقامة، بدءا من 1385 عندما أخذ "حجاج السؤال" في بناء مساكن لهم في قمته لينؤوا بأنفسهم عن ملاحقة الجوازات والحملات الأمنية وعلى رغم مضي تلك السنوات الطويلة، فإن هؤلاء الحجاج الذين تخلفوا عن العودة إلى بلدانهم عادوا إلى المربع الأول ليجدوا أنفسهم أمام خيارين: العودة إلى أوطانهم أو الانتقال إلى عشوائيات جديدة إلا أن خيارهم كان البقاء في مكة والانتقال إلى عشوائيات مجاورة، خصوصا أن أبرز حافز فيها كان توفر مقاولين يمتهنون أساليب ملتوية بعيدا عن الرقيب، ليبنوا لهم مساكن كالتي كانوا فيها، وبسكراب عقاراتهم المنزوعة ذاتها.


أسواق للمسروقات

ورصدت "مكة" خلال جولة في المنطقة أمرين متناقضين: ففي الجبل يعلو أزيز البلدوزرات وهي تزيل ما تبقى من عقارات وتمهد الأرض لبنية تحتية جديدة للمشروع الحيوي الذي يربط غرب مكة بالمسجد الحرام أما في الأحياء المحيطة به، فتزداد عشوائية باستقبالها للمغادرين والعمل الدؤوب والخفي لبناء مساكن لهم هناك، كان التخلف العنوان الأبرز: مخالفات بالجملة، أسواق علنية لمسروقات وشرائح اتصالات مجهولة، بناء عشوائي متسارع، تحركات مريبة لأشخاص يعتقد أنهم من متعاطي الممنوعات، عمالة بعضها سائب تتاجر بأثاث مستعمل وعمال نظافة ينساقون وراء دخل إضافي في نقل المؤن والأثاث إلى قمم الجبال أما المراهقون فأطلقوا سيقانهم للريح بين كر وفر أثناء سرقة سكراب الحديد المزال، وعلى مخارج الطرق عصابات لسرقة الحديد من أحواض الشاحنات التي تغادر المكان، فيما افترش آخرون المساجد القريبة بعد إزالة عقاراتهم ويسأل محمد إسماعيل، وهو من القلة غير المخالفة التي كانت تسكن الجبل: ماذا بعد؟ ها قد أزيلت العقارات العشوائية، فهل يبقى المخالفون من سكانها، مخالفين؟ ورأى إسماعيل أن هناك خيارين لا ثالث لهما، الأول البحث عن سكن بديل في الأحياء العشوائية المجاورة أو في عشوائيات أطراف مكة، والثاني مغادرة سكان تلك الأحياء من المخالفين مكة طوعا بتسليم أنفسهم وترحيلهم، أو كرها بالقبض عليهم
لكنه أكد أن الناس تلجأ إلى الخيار الأول خصوصا أنهم وجدوا مقاولين من الوافدين، يبنون لهم مساكن مخالفة بأسعار تتراوح بين 50 ألف ريال و100 ألف وهذا ما أكده المقاول سراج هوساوي، بقوله: أعمل في المقاولات ببناء مساكن للراغبين في قمم الجبال ولدي عمالة تستطيع نقل المؤن إليها وفيما أقر بخوفه من فرق البلدية، أشار إلى أن العمل يتم في أوقات خارج الدوام الرسمي وخلال إجازة الأسبوع، مؤكدا أن هذه المشاريع ليست مكلفة خصوصا للمسكن الذي لا تتجاوز مساحته 100 متر مربع

بدأ جبل الغراب يتحرر من سكانه المخالفين ويروي محمد سالم الذي يعمل في حياكة الأحذية، تاريخ الجبل بقوله: قبل أكثر من 40 عاما بدأ بناء أول منزل في الجبل على يد أحد "حجاج السؤال" وهم من الذين أتوا لأداء الفريضة ثم بدؤوا يسألون عن مطوفين يتولون الإشراف عليهم ورعايتهم خلال الموسم وعقب أداء الفريضة قرروا عدم العودة إلى بلدانهم والبقاء في مكة فبحثوا عن مأوى وكان الخيار في قمة جبل الغراب لأنه بعيد عن ملاحقة الجوازات والحملات الأمنية أدرك حجاج السؤال حينها أن الخيار مناسب، لكن يتوجب عليهم بناء المساكن بطريقة معقدة يصعب من خلالها اختراق حصونهم المشيدة


وتابع سالم: في قمة الجبل الذي سمي بالـ"غراب" لسواده، بدأ بناء أول منزل، ثم استمر البناء من الأعلى إلى الأسفل عبر بيوت شعبية متلاصقة بناؤها من الطوب الأحمر، تتخللها أزقة ضيقة بطريقة لا تسمح إلا بمرور الراجلين، وتداعى إليه مئات المخالفين الهاربين من شبح العودة إلى الموطن الأًصلي، وتواصل البناء العشوائي ليرسم ملامح بيئة جديدة لسحنات أفريقية استوطنت المكان وتكاثرت عبر الأجيال حتى تجاوزت 10 آلاف عقار مخالف في البناء والتملك والسكن


وظل سكان "الغراب" مخالفين لأنظمة الإقامة أربعة عقود، لم تتغير أحوالهم إلا القليل منهم ممن استطاعوا تصحيح أوضاعهم بالإقامة النظامية أو الحصول على الجنسية وبقي ثلثا العدد بلا هوية نظامية، وبقي الحال على ما هو عليه في هروب دائم من قبضة الأمن أو الوقوع في فخ الحملات الأمنية، في حين أن بعضهم ألقي القبض عليه وصدر بحقه قرار بالترحيل قبل أن يعود من جديد بتأشيرة عمرة للإقامة في البلد بطريقة لم تتغير عن سابقتها.


10 أعوام من التخلف الجماعي

قبل أربعة عقود قدم سكان جبل الغراب لأداء الفريضة وهم يحملون في قرارة أنفسهم الإقامة في مكة وعدم مغادرتها، بعد أن أتاح النظام لهم في ذلك الوقت حرية الحاج في السؤال عن المطوف الذي يريده وأحقية المطوف في خدمة الحجاج الذين يسألون عنه، واستمر قدومهم للحج والتخلف الجماعي عن المغادرة لأكثر من عشرة أعوام قبل أن يصدر قرار إلغاء نظام السؤال واستبداله بنظام التوزيع الذي أعقبه بعد ذلك قيام كيانات مؤسسات الطوافة هذه الحقبة كانت بداية التخلف الحقيقي للحجاج
ويقول يونس هوساوي قدمت بمفردي لأداء فريضة الحج قبل 40 عاما وكنت من أوائل من بدؤوا بالبناء في قمة جبل الغراب، هربا من الترحيل، على الرغم أن تلك المناطق التي تفصل بين الجبل والحرم كانت خالية من المباني والسكان لكن قمة الجبل كانت أكثر طمأنينة مقارنة بما سواها من الأمكنة
وأضاف "أن حجاج السؤال واستقلالية الحاج بقراره كان دافعا لنا في التخلف، لكن إلغاء القرار وبدء الحملات الأمنية ساهم في لجوئنا إلى قمم الجبال والبناء فيها، وهنا تواصل تكون الأسر بالتزاوج فيما بينها وتكاثرت الأعداد واتسعت رقعة البناء في هذه الأحياء.


علاج المخالفين بالطب الشعبي

في عشوائيات "الغراب" كانت الحياة إفريقية خالصة، وأوجدت بيئة خصبة للعلاج العشوائي والزواج المخالف والحلول المعاكسة للأنظمة، في هذه البيئة برزت سيدات يعالجن المخالفين من المرضى بالطب الشرعي، لصعوبة علاجهم بالمستشفيات، لذا وضعوا لأنفسهم حلولا للمشكلات التي تواجههم بدءا بامتهان أطباء من بني جلدتهم مهنة الطب، وصولا إلى عقود الأنكحة التي يتولى توثيقها عرفيا بينهم مأذونون شرعيون، لكن المشكلة الكبرى التي تواجههم أثناء حدوث الوفاة، يعتقد بكر فلاته، أن التعامل في حال الوفاة يختلف من أسرة لأخرى، أسرة تلجأ إلى ركوب المحظور بدفن قريبها المتوفى في الأراضي الفضاء خارج مكة دون إذن مسبق من الجهات ذات العلاقة، وأسر أخرى تلقي بجثة المتوفى في أي مكان وتتوارى عن الأنظار.

 

صانعة "الكسرة" .. أرملة عاشقة

على عتبات منزل متهالك في حارة المثلث الواقعة على الطريق المؤدي لجبل غراب، بسطت أم ندى أرغفة من «الكسرة» لتجذب إليها عشاق الأكلات الشعبية الأفريقية، تارة يرتفع صوتها بالغناء وتارة أخرى تتحدث إلى جارتها عائشة التي تمتهن بيع «القورو» في عادة تتكرر مع بزوغ الفجر، وتتوقف عند الظهيرة لتعود في المساء إلى ذات المكان الذي يعج بالمتسوقين


السيدة العجوز تتذكر تفاصيل قصتها التي بدأت حينما قدمت لأداء الركن الخامس، وقررت الإقامة في العاصمة المقدسة مدى الحياة، بعد أن تركت منزلها الذي يقع في حي سكني بالقرب من شارع شارل دو غال في مدينة نجامينا في تشاد خلال الفترة التي لم تتجاوز خمسة أعوام من إقامتها المخالفة تعرفت على شاب سعودي في العقد الثالث، وسارعت في الاقتران به بعد أن تقدم لخطبتها، وقدم مهرها بتصحيح وضع إقامتها، وبعد عام واحد تعرض لحادث مروري فارق على إثره الحياة، فوجدت نفسها وحيدة بعد أن رزقت منه بطفلة أطلقت عليها اسم ندى وهى تبلغ السنة عامها العشرين وتدرس بإحدى الجامعات


تضيف في حديث لـ»مكة»: صديقاتي يطلقن علي العاشقة لكثرة تكراري لقصة زواجي ومحاسن زوجي المتوفى، كون ارتباطي كان عن قصة حب، وزوجي كان شابا وسيما، وأشعر بالضيق حين التفكير في العودة لمسقط رأسي خوفا على فراق ابنتي، وخوفا من حرماني من رؤية أقاربي الذين فارقتهم منذ قدومي للسعودية، وقلبي مقسوم بين نار فراق ابنتي ونار البقاء بعيدا عن أسرتي، قضيت أيام جميلة رغم صعوبة الحياة في جبل الغراب، واعتمدت على إدارة شؤون حياتي وتأمين مصدر رزقي من خلال صناعتي لأرغفة الكسرة وبيعها على المتسوقين في هذا السوق الذي يتوقع أن يتم إزالته ضمن العقارات المتبقية من المشروع.

 

البار: أحقية السكن دون النظر للجنسية

أكد أمين العاصمة المقدسة الدكتور أسامة بن فضل البار لـ»مكة» أن منطقة جبل غراب تقع ضمن مشروع الطريق الموازي الخاضع لإشراف «الهيئة العليا لتطوير مكة المكرمة»، وأن هناك تنسيقا تكامليا مع الأمانة لإنجازه، خصوصا بعد اتمام نسبة كبيرة من أعمال نزع العقارات لمصلحة المشروع الذي سيسهم في تطوير عدد من الأحياء العشوائية


وأوضح أن لائحة تطوير الأحياء العشوائية لم تفرق بين المقيم والمواطن في السكن، بل تعاملت على أساس الخدمة التي تقدم للجميع من دون النظر إلى الجنسية أو أي عوامل أخرى، كما أنها تعطي الأحقية في التملك لكل المستحقين للسكن من قاطني الأحياء التي نزعت عقاراتها


وأعلن البار أن هناك مشروعا للإسكان البديل سيطرح للترسية قريبا، للبدء في أعمال الإنشاء، موضحا أن الوحدات السكنية فيه ستخصص بالكامل للملاك المنزوعة عقاراتهم في مشاريع تطوير العشوائيات.

 

المورقي: مخلفات البناء ساهمت في تكدس النفايات

أوضح المدير العام للنظافة في أمانة العاصمة المقدسة المهندس محمد المورقي أن ضعف رقابة الشركات المنفذة للمشاريع تسبب في تكدس نفايات ومخلفات البناء في الأحياء المجاورة للأحياء التي تشهد مشاريع تطويرية، مما وفر بيئة خصبة لقائدي الشاحنات المخالفة ليفرغوا حمولاتها في تلك الأحياء فتكدست النفايات وعرقلت أعمال النظافة


وطالب المورقي الشركات بحماية المواقع والأحياء التي تشهد مشاريع التطوير، لئلا تتحول إلى مكب للنفايات ومخلفات البناء، مشيرا إلى أن إدارته وضعت آلية لتحقيق أفضل مستوى للنظافة في الأحياء العشوائية ترتكز على ضبط المخالفين من الذين يفرغون حمولات، وزيادة أعداد العمالة في بعض أيام الأسبوع


وقال: رغم النظافة المستمرة، لا تزال الجهود تراوح مكانها دون أن تحقق نتائج ملموسة لأن قاطني تلك العشوائيات لا يلتزمون بوضع النفايات في الحاويات المخصصة لها.

 

الشرطة: لن يتبقى مخالف واحد على أرض مكة

أكد الناطق الإعلامي لشرطة العاصمة المقدسة المقدم زكي الرحيلي لـ»مكة» أن الأحياء التي تشهد مشاريع تطويرية مستهدفة بحملات أمنية مفاجئة لملاحقة مخالفي العمل والإقامة والقبض عليهم وترحيلهم، ولن تتوقف هذه الحملات إلا بعد أن يتم القبض على آخر مخالف


وأوضح أن «هناك صعوبة في القبض على كل المخالفين في آن واحد، لكننا نؤكد أنه لن يبقى مقيم واحد مخالف في مكة خلال الفترة المقبلة، ولدينا خطط أمنية لمراقبة الأحياء العشوائية وضبط المخالفين»، لافتاً إلى أن جميع الأحياء العشوائية عليها رقابة سرية، والإحصائيات خير برهان على الضبط الإداري اليومي للمخالفين الذين يتم تسليمهم لمركز إيواء الشميسي تمهيدا لترحيلهم


وعاد المقدم زكي الرحيلي ليؤكد أن الشركات المسؤولة عن التطوير في تلك الأحياء مسؤولة مسؤولية كاملة عن محتويات العقارات المنزوعة ومنع سرقتها، «ونحن دورنا يبدأ حين تلقي بلاغ عن سرقة هذه المواقع، حيث تتحرك الشرطة فورا لموقع البلاغ، إضافة إلى وجود مراقبة دائمة لتلك المواقع من قبل فرق البحث الجنائي لضمان حمايتها من الاعتداء».