رحيل البلادي ؟!
* نعم كما في نهاية العنوان علامتا تساؤل وتعجب تمر بي كل ما فقدنا علماً من أعلام الفكر من أبناء هذه التربة المباركة، فأتساءل في تعجب وأستغرب في استفهام عن الجحود الذي يبديه مجتمعنا المحلي تجاه المبدعين والمفكرين الجادين والصادقين. مقابل الاحتفاء والتمجيد للكسالى والخاملين الذين لا تسعفهم قدراتهم وإمكانياتهم الذاتية والمعرفية ليكونوا في عمق الضوء المجتمعي، فيتكئون على علان وزعطان، ويلعبون بالبيضة والحجر، والورقات الثلاث، وآليات النفاق للوصول إلى أهدافهم وتحقيق مصالحهم الذاتية البحتة.
* كثيرون مبدعون ومُبهرون ممَّن أنجبتهم هذه التربة المباركة، وفي امتداد تاريخي طويل. ويكفيها شرفاً أن تكون منشأ ومسقط رأس ومثوى نبي الأمة سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، ورجال من أمثال ابن الخطاب، وابن الوليد، وابن العاص، وعنترة، والزير سالم، وعمر بن أبي ربيعة، وحاتم الطائي، والنابغة الذبياني، وألوف آخرين مثلهم.
* ولكن وبقدر ما في هذه الأرض من خيرات وقامات بشرية رفيعة، وبقدر ما حفظ التاريخ لها سير أبنائها الخالدين، بقدر ما نعيش في أيامنا هذه جحوداً عجيباً، وإقصاءً مخيفاً لكثير من المبدعين! لا لشيء سوى أنهم لا يملكون آليات الفهلوة، وأدوات الشطارة، وحركات «النُّص كُم» التي يتفنن فيها كثيرون غيرهم.
* قبيل أيام ودّعت هذه التربة المباركة من أرض مكة المكرمة شرفها الله علماً من أعلامها الذين أبدعوا طوال أيام حياتهم إنتاجاً وعملاً وجهداً وجداً، ولم يبخلوا على الوطن وأهله بشيء، أو يحتفظوا لأنفسهم بالمعارف التي أودعها الحق سبحانه وتعالى لديهم، فأنتجوا وخلفوا زاداً معرفياً ضخماً. رحل عاتق البلادي في هدوء مجتمعي عجيب، وانتقل إلى دار البقاء هكذا بدون زفة وزيطة وزمبليطة كما يحدث مع غيره ممّن لا يملكون ذرة من معرفته وإنتاجه.
* عاتق البلادي سيبقى في الذاكرة المجتمعية حاضراً ومستقبلاً مُنجِزاً بكل المقاييس، وسيحتل مكانة مضيئة في ثنايا العقول الصادقة، فغزارة إنتاجه تستعصي على النسيان أو التجاوز، أو حتى التغاضي، فلا يمكن لأي أحد كان عندما يعود إلى تاريخ وجغرافية ومواقع مكة المكرمة ومنطقة الحجاز إلَّا ويبحث عن عاتق البلادي ويستعين بما كتبه وما تركه من زاد معرفي هو ثروة معرفية وفكرية هائلة.
* كثيرون في يقيني لا يعرفون، وربما لا يستطيعون نطق اسم عاتق بن غيث البلادي، ولكنه وبرغم كل ذلك وفوق كل الصغائر إنما هو عملاق من عمالقة هذه التربة المباركة في إنجازاتهم وإبداعاتهم المعرفية والتي ستبقيهم دائماً خالدين في الأذهان حتى وإن عاشوا أيامهم في ظل جحود مجتمعي مفجع.
* يعتصرني الألم وأنا أرى هكذا حال عاشها مبدع في قامة البلادي في الوقت الذي أعرف مجتمعات إنسانية أخرى قريبة منا جغرافياً، أو بعيدة عنا مسافة وزمناً حضارياً تحتفي بمبدعيها من أمثال عاتق البلادي، ولكن وكما ذهب سابقاً الأستاذ الدكتور ناصر الحارثي يذهب البلادي، وليس لهم من نصيب الضوء ما يمتلكه آخرون ومع ذلك أقول إن مهمة جامعاتنا السعودية حتمية في ضرورة الاهتمام والاحتفاء بهكذا مبدعين، وليس أقله إطلاق أسمائهم على مبانٍ وقاعات محاضرات في الحرم الجامعي، وإلَّا سنبقى جاحدين حتى وإن ادّعى آخرون بغير ذلك.
المدينة 10/3/1431هـ