الأصل هو “من أحيا أرضاً فهي له”.. والصك له تبع !!

أفنى شبابه وعمره وهو يجمع القرش على القرش –كما نقول-، ليبني منزلاً يؤويه، هو وأسرته، واختار مساحةً من أرض الله الواسعة على قدر حاجته، وبدأ البناء طوبة طوبة، وغرفة غرفة، وفي وعيه العميق قول سيده صلى الله عليه وسلّم «من أحيا أرضًا ميتة فهي له»، وبدأت تتكوّن ملامح ومعالم منزل العمر –هكذا يراه-، الذي أصبح أجمل حكاية يحكيها لأهله وأولاده كل ليلة قبل النوم، ينسج خيوطها من يوميات أعمال البناء..

ومن شدة فرحهم انتقلوا للعيش في بيتهم الجديد، حتى قبل الانتهاء من تشطيب جميع غرفه ومرافقه، وظل صاحبنا يكمل البناء على قدر ما يجمع من كده !!

ومضت السنون، وهو في تبات ونبات، إلى أن بدأ يخترق سمعه وقاموسه كلمات جديدة، مثل العشوائيات، التطوير، نزع الملكيات، الأنقاض، الصكوك.. فلم يلق لها في البدء بالاً، إلى اليوم الذي وجد فيه رقماً على منزله، ثم طلباً للمراجعة، ثم طلب صك الملكية – هكذا تسارعت الأحداث-، وبعدها علم أنه سوف يُعوض عن الأنقاض، ولن يُعوض عن قيمة الأرض، لأنه لا يملك صكاً!! ما هذا الصك؟؟ وكيف ينزع حقه دون تعويض؟؟ وأين يذهب؟؟ وكيف ذهب بيت العمر؟؟ هي سلسلة لا تنقطع من الأسئلة.. وفي خضمها جاء الجواب القاطع، بقطع الخدمات، والإخراج من بيت العمر، حتى قبل توفير البديل، أو صرف التعويض المجزي !! إلى أين؟؟ لا يعرف؟؟ وكل ما يعرفه أن غيره يحصل على أراض لم يحيها ولا يحزنون، ويُمنح عليها الصكوك دون عناء!

سقت هذه المقدمة الطويلة لأعقب على إعلان إدارة مشروع طريق الملك عبد العزيز بمكة المكرمة، (النهائي والأخير)، والذي تحذر فيه الإدارة المتخلفين عن الحضور، من ملاّك العقارات، وتحملهم المسئولية عن اعتبار عقاراتهم بلا صكوك.. أي أصبحت عبارة (بلا صكوك) تهديداً، تستخدمه إدارة المشروع ضد ملاّك العقارات المتخلفين عن الحضور.

في حين أن المنهجية التي اعتمدتها الهيئة العليا لتطوير مكة المكرمة لجميع مشاريع التطوير، نصّت على معاملة من ليس لديهم صكوك معاملة من بأيديهم صكوك، وذلك حفاظاً على حقوق جميع الملاّك، وعلى الأخص ضعافهم، وذلك بناءً على معرفة أعضاء الهيئة لواقع الحال في معظم أحياء مكة المكرمة المرشحة للتطوير حول المسجد الحرام، وأن غالبية الملكيات فيها لم يتم توثيقها في صكوك، واستحضاراً لعظم حرمة مكة المكرمة، والوعيد الشديد لإرادة الظلم فيها فحسب.

وقد كان حفظ الحقوق، والالتزام بما يأمر به الشرع الحنيف أهم ركائز أعمال الهيئة، وكثيراً ما كان يدور النقاش والتذكير بذلك، وهو ما أفضى إلى إرساء هذه القاعدة (معاملة من ليس بيدهم صكوك، معاملة من بيدهم صكوك)..

وكنت أظن أن تطبيق هذه القاعدة قد أعيق بالقرار السامي بإيقاف إصدار صكوك الاستحكام في مكة المكرمة، ولكن خاب ظني.. لأنني وجدت أن لائحة تطوير المناطق العشوائية بمنطقة مكة المكرمة، قد أسقطتها من بنودها وموادها، فالمادة رقم 49، التي تتحدث عن الحيازة بدون صك على أراض عامة، تنص على أن التعويض في هذه الحالة سيقتصر على الأنقاض، وأن ملكية الأرض ستؤول لشركة التطوير كحصة عينية للأمانة أو الشركة التابعة لها، ولم تُشر للقاعدة التي أعتبر -أنا- أنها من القواعد الذهبية، والتي تبرأ بها الذمة أمام الله عز وجل، خصوصاً في مكة، وفي رأيي أن اللائحة أغفلت عمداً مبدأ الإحياء الشرعي، في حين كان الأولى والصحيح أن تتمشى بموجبه، حفظاً لحقوق الملاّك بما فيهم الغيّب والأجانب، وأن تطلب الاستثناء لحيازات الأحياء العشوائية من الأمر الملكي الذي أوقف صكوك الاستحكام، لأن الإحياء الفعلي في الأحياء العشوائية في غالبه تم قبل صدور الأمر، وأصحابه هم أحق الناس بإثبات حقهم وملكيتهم بصكوك شرعية، لأنهم بالفعل أحيوا أرضاً مواتاً لسكناهم وأسرهم، وليس كما فعل غيرهم احتيالاً، أو تطلعاً لزيادة ثرواتهم، وبغرض البيع والتجارة، أو للحصول على تعويضات نزع الملكيات للمشاريع التي وصل إلى علمهم أنها ستُنفّذ..

وقد لفت انتباهي تكرار الحديث عن الملكيات المضارة والمعرقلة للتطوير، والتي استبيحت تحت طائلة التطوير.. وهو أمر يحتاج إلى نظر، فالملكيات ضمن الحرمات –إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم..-، وهي في مكة المكرمة أعظم حرمة –حرمة بلدكم هذا..-، ولا يجوز استباحتها إلاّ لمصلحة عامة مؤكدة، مُقدّرة بقدْرِها، لا تشوبها شائبة المصالح الخاصة كما هو الحال في التطوير بواسطة القطاع الخاص..

بقي أن أشير إلى ملاحظتين لأحد الملاّك في مشروع طريق الملك عبد العزيز، الأولى: وهي أن إدارة المشروع لا زالت تعلن عن النزع، وقطع الخدمات، وبدء الهدم، ولم تُعلن عن صرف التعويضات لمن لا يرغب في المشاركة في الشركة المزمع إقامتها. الثانية: أنه مضى على تقدير التعويضات الذي تم في شهر ذي القعدة 1428هـ أكثر من عامين، وأصبح من الواجب على إدارة المشروع إعادة التقدير وفقاً للأسعار السائدة هذه الأيام، والتي ارتفعت في أقل الأحوال إلى الضعف، وذلك وفقاً للمادة الثامنة عشرة من نظام نزع ملكيات العقارات للمنفعة العامة الصادر بالمرسوم الملكي رقم م/15 وتاريخ11/3/1424هـ. وأرجو أن لا تقف جدوى المشروع الاقتصادية دون الالتزام بهذا الحق لملاك العقارات، وتكون مرة أخرى سبباً في التعدي على الحقوق والملكيات الخاصة. وللتذكير فقد تمثلت المرة الأولى في التوسع في نزع الملكيات لزيادة مساحة المشروع بهدف تحقيق الجدوى الاقتصادية للشركة المطوّرة !! والله الملهم الجميع الصواب.

 

المدينة 3/2/1431هـ