تجربتي مع محاضر رفع الحرج في الحج !!

من المعيب جداً أن يكون همّ القادة والمسئولين هو تحرير المحاضر لرفع الحرج عن أنفسهم، وإخلاء مسئوليتهم أمام مراجعهم، ينسون أن دورهم ومسئوليتهم هو منع حدوث أي قصور أصلاً، ومعالجته الفورية إن حصل لهذه الأيام في حياة المطوفين نكهة خاصة، وهي تحتل جزءاً كبيراً من ذاكرتهم.. ولا أدري ما هوذاك الذي يتسلل إلى نفوس المطوفين في الشهور التي تسبق موسم الحج فيدفعهم إلى الإنخراط مجدداً في خدمة ضيوف الرحمن برغم ما يعيشونه من ظروف حرجة ودقيقة أثناء تقديم خدماتهم للحجاج، وما يتعرضون له من ضغوط، تصل مع بعضهم لحد (الدهملة) و(المرمطة)؟؟

هل هو حب؟ أم هو عشق؟ أم هو اصطفاء وتسخير من الرحمن جل وعلا لخدمة ضيوفه؟


و ما أستطيع أن أبوح به هو أن للعمل في خدمة ضيوف الرحمن متعة يعجز القلم عن وصفها، وفيها من الأجور العظيمة الشيء الكثير، وذلك لمن ينتهز الفرصة، فذاك حاج تائه يحتاج من يدله، وآخر جائع يحتاج من يطعمه، وثالث مريض يحتاج من يسعفه، وهذا متاح لكل من يكون في مناطق تواجد الحجاج وعلى الأخص حول المسجد الحرام، حتى أنني أقول لمن حولي أن الأجور في الحج توزع بـ (الكورجة) وهي وحدة قياس لعبوة بضائع معينة، وأعتقد أن المقصود بها 12 درزن من صنف ما..

شدني لهذه المقدمة الحنين للعمل في خدمة صيوف الرحمن التي حال بيني وبينها أناس أسأل الله أن يعفو عني وعنهم، وظروف آمل أن تزول قريباً..

أعود لحديثي عن محاضر رفع الحرج، التي لاحظت أنها أصبحت ثقافة تنظيمية راسخة في مؤسساتنا الحكومية، وبالعدوى انتقلت في مؤسساتنا الأهلية، حتى أنها صارت النقطة أو الملاذ الذي يلجأ إليه التنفيذيون لرفع الحرج عن أنفسهم أكثر من معالجة القصور الذي يقع.

ومما تعلمته من الوالد يرحمه الله، كمطوف، مارس مهنة الطوافة في عهد الأفراد، كما مارس التخطيط والقيادة والعمل في الميدان في واحدة من أكبر مؤسسات الطوافة، وهي مؤسسة مطوفي حجاج الدول العربية، هو أن طبيعة وظروف موسم الحج، وتوقيتات وأماكن أداء المناسك تفرض على المطوفين وغيرهم ممن يخدم ضيوف الرحمن أن يصرفوا كل جهودهم إلى تمكين الحجاج من أداء نسكهم براحة واطمئنان، وأن يعملوا على إزالة أي عوائق، وتذليل أي عقبات تواجه الحجاج أياً كان شكلها أو حجمها، وذلك بشكل فوري وآني، وبعد ذلك تتم محاسبة المقصر إن كان هناك تقصير، لأن الحاج لن يستفيد من محاسبة المقصر، وتحرير المحاضر، إنما يفيده تمكينه من إكمال نسكه براحة واطمئنان..

وأذكر أن إبداءه لهذا الرأي جاء على إثر تركيز وزارة الحج وهيئة الرقابة والتحقيق، والجهات الأخرى في حينها –قبل عشرين عاماً تقريباً- على تحرير المحاضر والشكاوى ضد المطوفين، حتى فيما ليس لهم فيه يد، من مشاكل الإسكان والمرور، وتكدس الخيام في المشاعر، والتي كانت تتم في بعض الأحيان على طريقة خذوه فغلوه، في حين أن الأولى هو إزالة القصور، وأما المحاسبة فتؤجل لما بعد انتهاء الموسم..

و أما تجربتي مع المحاضر، أثناء رئاستي للمجلس التنفيذي لخدمة حجاج مصر، فهي أنني لم أحرر أي محضر تجاه أي مجموعة من المجموعات الخمس والعشرين التي أشرف عليها، على مدى ثلاث سنوات، عدا محضر وحيد حرره أحد المعاونين في المجلس العام الأول، باعتبار أن ثقافة تحرير المحاضر لازالت سائدة.

وكان ذلك بناءً على قناعتي بما تعلمته من الوالد يرحمه الله بأن الأهم في خدمة الحجاج هو إزالة القصور، ثم بعد ذلك تأتي المحاسبة، وبأن تكثيف الرقابة والتفتيش وتحرير المحاضر قد أفسد الأجواء، وأحبط المطوفين، وأشغلهم عن مهامهم الأساسية في خدمة الحجاج، وبالتالي عدم تطور الخدمة، فقد كانت فرق الوزارة تفتش وتحرر محاضر، والرقابة والتحقيق تفتش وتحرر محاضر، وفرق متابعة المؤسسات تفتش وتحرر محاضر، ومعاونو المجالس التنفيذية يفتشون ويحررون محاضر، والإدارات الأخرى في المؤسسات كإسكان مكة وإسكان المشاعر، والإستقبال، يفتشون ويحررون محاضر، والدفاع المدني كذلك، حتى أصبح جل وقت المطوفين موجهاً للتوقيع على المحاضر..

ولنترجم هذه الرؤية، وهي معالجة القصور أولاً والمحاسبة لاحقاً، اتفقنا أنا والزملاء في مجلس الإدارة والمعاونين وفرق المتابعة التابعة للمؤسسة، على أن الدور الرئيس للمجالس التنفيذية هو الإشراف على مجموعات الخدمة، ودعمهم وإسنادهم عند حاجتهم لذلك، أو عند وقوع أي طاريء أو قصور لسبب أو لآخر، وترك مسألة توثيق الوقائع ورصد حالات القصور من خلال تحرير المحاضر لفرق المتابعة..

ونجحنا خلال ثلاثة مواسم فقط في تغيير الصورة الذهنية للمجالس التنفيذية، ومن تحويل تواجد رئيس المجلس أو المعاونين مع مجموعات الخدمة في الميدان، من مصدر للتوتر والإزعاج للمطوفين -بسبب ثقافة وسلوك تحرير المحاضر-، إلى مصدر للشعور بالدعم الحقيقي والودي، وساد التعاون والأجواء الإيجابية بين مجموعات الخدمة، وبينها وبين المجالس التنفيذية، إلى حد أصبح البعض يفتقد تواجد من يمثل المجلس التنفيذي معهم في الميدان، بعد أن كانوا لا يرغبون رؤيته، وانعكس ذلك –بالطبع- إيجاباً على مستوى ما يقدمونه من خدمات للحجاج..

إن من المعيب جداً أن يكون همّ القادة والمسئولين هو تحرير المحاضر لرفع الحرج عن أنفسهم، وإخلاء مسئوليتهم أمام مراجعهم، ينسون أن دورهم ومسئوليتهم هو منع حدوث أي قصور أصلاً، ومعالجته الفورية إن حصل..

أسأل الله أن يجعل هذا الموسم موسماً مباركاً، وأن يسدد جهود الجميع، وأن يحفظ الحجاج من كل سوء، وأن يمكنّهم من أداء نسكهم براحة واطمئنان .

المدينة 6/12/1430هـ