طالبة ترثي عاشق التاريخ
خاضت الصحف السعودية كثيرا، في مسألة انتحار الأستاذ الدكتور «ناصر بن علي الحارثي» رحمه الله، وخرج الطبيب النفسي المعالج، ليكشف كل ما في ملف الرجل من أسرار، خارجا في الوقت نفسه على قيم المهنة وشرفها، وكأن الرجل هو الوحيد في العالم، الذي آثر الهروب من الحياة، ولا أدري ما موقف وزارة الصحة من هذا الخلل الخطير، في العلاقة التي يجب أن تتصف بالسرية بين الطبيب المعالج والمريض، لكني لم أقرأ- على حد متابعاتي الصحفية المتواضعة- أن طالبا من طلبة «الحارثي» رثاه، أو قال شيئا عن سماته بوصفه أستاذا للتاريخ، إلا أن الطالبة «عائشة العباسي» التي تابعتْ -كما قالت في رسالة تلقيتها منها عبر بريدي الإلكتروني-: «ما عرضته الصحف السعودية من يوم 13 شوال 1430هـ حتى 5 ذي القعدة 1430هـ من تحقيقات، ومقالات، وآراء مختلفة لأقاربه، وأصدقائه، وزملائه، إلا أنني لم أقف على مقال أو رأي لأحد طالباته أو طلابه»، ورغبتْ مني أن أنشر كلمات لها عن الرجل، وتلبية لرغبتها أنشرها:
«حين تصل بنا الدروب إلى آفاق واسعة، تتحدد فيها ذواتنا، وتتعدد خياراتنا، من الواجب حتما أن نشكر الله تعالى، ثم نسجل اعترافنا بجميل هؤلاء العظماء، الذين بسطوا لنا أرواحهم لنتكئ عليها، ووهبونا من ثمين أوقاتهم حد الكرم. وتعجز أبجديات الوفاء عن مثل ذلك، في حق الأستاذ القدير الدكتور ناصر الحارثي رحمه الله، ولن يعرف الأمر إلا من تتلمذ على يديه، وجلس صباحات كثيرة يتعلم حرفة العطاء ممن يتقنها، ليعشق التاريخ، ويختزل في ذاكرته حضارة أمة ترفعه للنهوض بها. إن محاضرات الدكتور ناصر أعطتنا بعدا عميقا للدراسات الحضارية والأثرية، ومنحتنا مجالا كبيرا لمعرفتها، فلم يكن أستاذنا متصلبا في إطار واحد، ولم تشعرنا موارده العلمية بالقصور، بل كان سباقا إلى تزويدنا بالمصادر والدراسات كلما طلبنا ذلك، وكثيرا ما كانت تمتزج أصواتنا بالفرح، عندما يظهر اسمه أمام مقرراتنا الدراسية على لوحة القسم».
ختمت الطالبة «عائشة العباسي/ مكة المكرمة» رسالتها بأسطر مؤثرة قالت: «اليوم، بقيت تلك المقررات على الجداول، لكن الفراغ أمامها كان صامتا.. أتمنى أن يملأه من يعرف التاريخ، وتعرفه الحضارة».
هذه الكلمات على محدودية عددها، حفلت بمعانٍ من صميم الأخلاق العليا لكثير من أفراد المجتمع السعودي، جاءت من طالبة علمها الأستاذ الدكتور «ناصر الحارثي» رحمه الله، كتبتها بأسلوب إنساني راقي، يحتاج إليه أولئك الذين رافقوا الناس في مسيراتهم العلمية، والحياتية، وهي كلمات لا تكلف كثيرا، ولكنها تجسد معنى الوفاء لمن أعطوا الناس، وفارقوا الحياة وبصماتهم في: القلوب والعقول بل والدماء، كلمات جعلتني أشعر أن الدنيا بخير، وأن الوفاء موجود وأن من لا يشكر الناس لا يشكر الله.
رحمة الله عليك يادكتور ناصر، وغفر ذنوبك، وأسأله أن يدخلك في فسيح جناته.
عكاظ 24/11/1430هـ