حديث في الحج وآدابه (4)

نتحدث في هذه الحلقة عن رحمته سبحانه وتعالى ولطفه بعباده، وهو أعلم وأرحم بهم من أنفسهم، فلم يجعل الحج فرضا على جميع المسلمين، بل قال - عز وجل « ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين».
والاستطاعة نوعان:
ـ استطاعة مباشرته بنفسه
ـ واستطاعة تحصل بغيره

فالأولى تتحقق بخمسة أمور : الراحلة لمن بينه وبين مكة مرحلتان فأكثر، ثم الزاد وأمن الطريق، وصحة البدن، وإمكان السير أو وجود الراحلة، أو امتلاك أجرة الطريق، زيادة عما يحتاج إليه.

ويشترط في الزاد ما يكفيه لذهابه ورجوعه، فاضلا عما يحتاج إليه لنفقة من تلزمه نفقتهم وكسوتهم، وفاضلا عن مسكن وعن قضاء دين.

والمقصود بأمن الطريق الأمن على النفس والمال والبضع، فلا يجب على المرأة حتى تأمن على نفسها بزوج أو محرم (أو نسوة ثقات على رأي من أجاز ذلك من الفقهاء)

والمراد بصحة البدن أن يكون قادرا بنفسه فلا يجب على الأعمى حتى يجد قائدا، ولا على المقعد إلا أن يجد من يدفع له عربته أو كرسيه ولو بأجرة.

وأما استطاعة التحصيل بغيره فهو أن يعجز عن الحج بنفسه بموت، أو يعجز عنه بسبب زمانة أو مرض لا يرجى زواله، أو هرم ويسمى المعضوب.

ولا يجب الحج عن الميت إن كان له تركة إلا بإذنه ووصيته، ولا تلزمه الاستنابة إلا إن وجد مالا يستأجر به من يحج.

ومن هنا ترى سماحة الدين الإسلامي ويسره وبناء تشريعاته على رفع الحرج، ومراعاة مقتضيات الظروف والأحوال « صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة «.

اللهم رضينا بك ربا وبالإسلام دينا وبنبيك سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم – نبيا ورسولا.

وعندما نمعن النظر في سيرة سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم – فسوف نرى انه حدد المواقيت بوحي من الله – عز وجل – وعلم الصحابة والأمة من ورائهم أن الإحرام – أي الدخول في النسك - يكون من المواقيت التي سماها، كل حسب جهته التي جاء منها، وهي معروفة، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: «وقَّتَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام ومصر الجُحْفَةَ (بضم الجيم وسكون الحاء) ولأهل العراق ذات عِرْق، ولأهل نجد قَرْناً، ولأهل اليمن يلملم، ثم قال - صلى الله عليه وسلم «هن لأهلهن، ولكل آت عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة « وهذا مما اتفق عليه الشيخان : البخاري ومسلم.

والمراد بقوله: «ولكل آت عليهن من غير أهلهن « – أي من مر بهذه المواقيت من غير أهلهن سواء كانت له ميقاتا أو لم تكن – وهذا يوضح أن الجحفة مثلا ليست خاصة بأهل الشام ومصر، وإنما يدخل فيهن من وراءهن من أهل الأندلس والروم والتكرور. وأهل العراق يدخل معهم سائر أهل المشرق، وهو مفصل في كتب الفقه.

فانظر إلى تيسير الله على الناس، فإن الوضع الطبيعي هو أن يكون ذو الحليفة ميقات جميع المسلمين في مشارق الأرض مغاربها، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحرم منه والاقتداء به - صلى الله عليه وسلم - واجب بنص القرآن الكريم، ولكن – دفعا للحرج ودرءًا للمشقة ورحمة بالأمة – عدد الله المواقيت تبعا لاختلاف الجهات التي يفد الناس منها إلى الحج، فلله سبحانه وتعالى الحمد والشكر على هذه النعم التي لا نستطيع حصرها، ولا نقوى على ما تتطلبه من الثناء. وحسبك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في بعض ما يناجي به ربه - عز وجل « لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك « وقد قيل : العجز عن درك الإدراك إدراك.
ولما وصل صلى الله عليه وسلم الميقات (ذا الحليفة) صلى بالناس العصر قاصرا، وليس القصر في الصلاة مقصورا على الحج وحده، وإنما يشمل كل سفر سوغت مسافته القصر. وهذا أيضا من تيسير الله لعباده « وإن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تصان عزائمه «
وهي مجموعة في قول الناظم:
عرق العراق يلملم اليمــن
وبذي الحليفة يحـرم المدني
والشام جحفة إن مررت بها
ولأهل نجد قرن فاستبن .

المدينة 22/11/1430هـ