حديث في الحج وآدابه (3)

نواصل حديثنا عن هذا الركن العظيم يوم جاء الأمر بالأذان في الحج، وكيف أن الله -سبحانه وتعالى- قد أمر أبانا إبراهيم عليه الصلاة والسلام فقال (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ).

ولقد علمنا سبحانه أحكام الحج وآدابه فقال « الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَا أُوْلِي الْأَلْبَابِ (197) وانه سلوك حضاري متقدم مع كل إنسان وحيوان، ومع كل حاج من حيث جاء، وحب صادق للمسلمين، وصبر واحتساب، فلا جدال ولا فسوق في الحج.
وعندما ننظر في حجة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- نرى انه لما عزم - صلى الله عليه وسلم - على الحج في السنة العاشرة أمر أن يؤذن في الناس بالحج وأعلام الناس أنه (صلى الله وسلامه عليه – سيحج عامه هذا، فكان أهل المدينة وما حولها أول من علم بذلك، بطبيعة الحال هم أهل المدينة ومن حولها فاستعدوا لهذه الغاية ليحجوا معه، فخطبهم المصطفى - صلوات الله وسلامه عليه – وقد بين لهم مناسك الحج في المدينة النبوية ليسهل عليهم أعماله ومعرفة الأحكام في ذلك، ثم بدأ يطبقها أمامهم منسكا بعد منسك منذ خرج من بيته الشريف حتى انتهى منه في مكة المكرمة.

وفي يوم الخميس لست بقين من ذي القعدة صلى بهم الظهر أربعا، ثم خرج وخرجوا معه إلى ذي الحليفة، وكان الناس في المدينة وما حولها ينتظرون خروجه ليخرجوا معه، فلما خرج إلى ذي الحليفة خرجوا معه زرافات وجماعات حتى ضاقت بهم السبل، وبلغ عدد السائرين معه ما لا يعلمه إلا الله، فارقوا أوطانهم وخلفوا أولادهم وأسرهم، واستعذبوا المشقات فارين إلى الله، يتسابقون إلى رضوان الله رجالا وعلى كل ضامر، تهدهدهم الأشواق إلى البيت العتيق وتسطع عليهم الأنوار، وتصحبهم الملائكة الأبرار من كل جانب، وتنقلهم إلى حظائر الملأ الأعلى، وقسمات ذلك الوجه الأزهر والجبين الأنور، فكانوا كلما مشوا تلفتوا يمنة ويسرة ليظفروا برؤية من اصطفاه الله تعالى وفضله على جميع العالمين، فإذا رأوه ازدادوا إيمانا وتسليما وسرورا – صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين.

هكذا انطلق النبي –صلى الله عليه وسلم– ومعه هذا الموكب الذي لا تقف العين منه عند حد ولا يحيط به البصر مهما امتد، ساروا وكأنهم الأمواج في بحر لُجِّيَّ كلما هبطوا من عل، أو عبروا ربوة تكاد الأرض ترتج تحت أقدامهم الطاهرة، وكأن الشمس تطلع من جباههم النيرة بالإيمان، يحيطون بالنبي الكريم من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، وإن قلوبهم تكاد تذوب من حبه وفي حبه، ولو استطاعوا لحملوه في الأحداق فضلا عن الأعناق، ولو قدروا لحملوه على الأكتاف تقربا إلى الكريم الحنان، وابتغاء مرضاة الودود الرحمن، وشكرا له تعالى على هذه النعمة العظمى، والرحمة المهداة، إذ بعث فيهم «رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة» ويخرجهم من الظلمات إلى النور «يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم» و»يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلي النور بإذنه ويهديهم إلي صراط مستقيم « صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض» اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه الطيبات المطهرات أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين أجمعين.

ولا شك أن هؤلاء الذين خرجوا مع رسول الله –صلى الله عليه وسلم– خلفوا وراءهم أقواما لا يقلون عنهم شوقا إلى البيت، وحرصا على صحبة النبي _ صلى الله عليه وسلم - ورغبة في أداء هذه الفريضة المقدسة العظيمة، ولكن الله تعالى رؤوف بالعباد، ومن رأفته تعالى أنه لم يفرض الحج إلا على من استطاع إليه سبيلا .

المدينة 21/11/1430هـ