من فتح مكة إلى «9/11»

لحكمة يعلمها الله عز وجل، تتابعت في شهر رمضان الكريم لهذا العام ذكرى فتح مكة وذكرى تدمير عدد من رموز السيادة الأمريكية التي يعرفها العالم بتاريخ وقوعها الميلادي (11-9-2001م) باعتبار تقديم الشهر على التاريخ حسب النظام المعمول به في الهيئات المدنية الأمريكية. ولكن حسب التاريخ الهجري القمري وافق يوم 11/9 لهذا العام يوم 21 رمضان 1430هـ، أي اليوم التالي لذكرى فتح مكة. ورغم أن الفارق الزمني بين الحدثين يصل إلى 1413 سنة باعتبار حدوث فتح مكة في العام الثامن للهجرة إلا أن المقارنة بين الحدثين من حيث الأشخاص والدوافع والاستراتيجيات والآثار المترتبة تستحق من المسلمين التفكر فيها مليا في هذه العشر الأواخر من رمضان التي تتميز بروحانية وشفافية نفسية وفكرية غامرة.

فتح مكة الذي قاده الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بنفسه كان الدافع وراءه (نصرة المظلوم) وتطهير البيت من الرجس والأوثان بدليل عودته للمدينة بمجرد إنجاز المهمة بعد أن قال مقولته الشهيرة (والله إنك لخير أرض وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت). والنصرة كانت لقبيلة (خزاعة) حلفاء المسلمين الذين اعتدت عليهم قبيلة (بنو بكر) حليفة كفار قريش وبمساندة منهم دون مراعاة لحرمة المكان ولا صيانة لعهد الحديبية الذي التزم المسلمون به بحذافيره جملة وتفصيلا بما في ذلك إعادة من لجأ إليهم من قريش إلى قومه من غير تردد أو نقاش.

ويعتبر فتح مكة من بدايته إلى نهايته موسوعة ثرية في التخطيط العسكري وتنفيذ العمليات وضبطا دقيقا لآداب وأخلاق المجاهدين في الإسلام. فلقد علم الرسول عليه السلام صحابته رضوان الله عليهم كيف يتم الاستعداد والتخطيط للحرب بسرية فائقة وهدوء وحرفية، دون جعجعة ولا استعداء ولا إطلاق للتهديدات في كل اتجاه. كما علمهم كيف يتم التعامل مع من يضعف ويلقي للعدو بالمودة من المسلمين تحت ضغط عاطفة الأبوة أو الأمومة والخوف على الأبناء، وذلك من خلال قصة الصحابي حاطب بن بلتعة الذي حاول تحذير أهل مكة من الهجوم ليضمن سلامة أبنائه المقيمين هناك في حال الفشل. فرغم أن كثيرا من الصحابة سارعوا لمطالبة الرسول بقتله رفض الرسول ذلك بحزم وذكرهم بأنه شهد (بدرا) وعلمهم كيف ينظرون إلى تاريخ الرجل فلعلهم يجدون فيه ما يشفع له وينفي تهمة الخيانة عنه كما علمهم كيف ينظرون إلى الدوافع وليس إلى الفعل مجردا، فرغم أن الفعل جريمة واضحة وخيانة عظمى بمعايير هذا الزمان إلا أن الرسول عليه السلام قدر دوافع الرجل الذي تحركت لديه عاطفة الأبوة فأغمضت بصره عن رؤية أي شيء آخر فرحمه الرسول الكريم وأشفق عليه وعفا عنه.

وعلى مشارف مكة كان المسلمون على موعد مع دروس أخرى من دروس الهادي الأمين حينما قدم إليهم أبو سفيان بن حرب، سيد مكة حينها، وهم على مشارف مكة المكرمة أملا في التفاوض وإحياء المعاهدة التي نقضها قومه فلم يجد أية آذان صاغية بل أوعز الرسول عليه السلام لأصحابه أن يحتجزوه قليلا عند مضيق الجبل ليريه قوة المسلمين العسكرية. فمرت القبائل على راياتها، ثم مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء. فقال أبو سفيان: ما لأحد بهؤلاء من قبل ولا طاقة ثم انطلق إلى مكة مسرعا ليصيح بأعلى صوته محذرا (يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به. فمن دخل داري فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن). وقد سمى داره دار أمان لأنه رجل يحب الفخر فأعطاه النبي عليه الصلاة والسلام هذه ليفخر بها.

والدروس هنا متعددة منها أن لا مفاوضات مع من ينقض العهود وأنه لا بد من الحسم العسكري بحشد كافة عناصر القوة الوطنية، وأن الاستعراض بالقوة العسكرية لا يستخدم إلا في المكان والزمان المناسبين كوسيلة ضغط لتجنب الحرب وأن يكون موجها للعدو لا للمواطنين ولا للجيران ولا لمجرد التسلية بمشهد العساكر والآليات تتهادى فوق الأرض والطائرات تتقلب في الفضاء.

وأثناء الفتح وبعده كان المسلمون على موعد مع عدد من الدروس الأخرى التي أرساها النبي الأعظم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم في التعامل مع أهل البلاد المفتوحة من غير المقاتلين. فلم يسمح باستباحة أعراض الناس أو أموالهم بل فاجأهم بعفو عام شمل فيمن شمل أعداءه الشخصيين وفي مقدمتهم هند بنت عتبة التي استأجرت عبدا لقتل أحب أهله إليه أسد الإسلام عمه حمزة في أحد وأتبعت ذلك ببقر بطنه ولوك كبده. والدرس هنا يتمثل في أن التركيز يجب أن يكون على هدف الحرب وطالما أنه تحقق فلا داعي لاستعداء المهزومين، بل يجب التركيز على لجم مشاعر الثأر الانتقامية البدائية التي لن تقود إلا إلى حمامات دم وحشية تودي بحياة كثير من الأبرياء وتقضي على آخر الآمال في الإصلاح والاستقطاب والسلام.

قد يقول البعض إن هذا التسامح حصل في مكة لأنها مسقط رأس الرسول عليه الصلاة والسلام وأهلها هم أهله. وهذا كلام مردود لأن هذه القواعد التي أرساها نبي الرحمة عليه السلام تم تطبيقها على كافة الفتوحات الإسلامية بعد ذلك التاريخ من الصين شرقا إلى الأندلس غربا ولست بحاجة لإيراد الأمثلة على ذلك فهي لا تعد ولا تحصى عبر تاريخ الإسلام الطويل.

أما الآثار التي ترتبت على فتح مكة فأهمها التفاف العرب جميعا حول راية الإسلام ونقلهم لرسالة الرحمة والسلام إلى كافة شعوب الأرض حتى أصبح الإسلام أكبر دين تدين به البشرية من حيث التعداد وأسرعها من حيث الانتشار الجغرافي رغم أن فترته التاريخية لا تزيد على «1 %» من الفترة التي استغرقها انتشار أقرب الأديان السماوية إليه، ولهذا لا يتجاوز المسلمون الحقيقة بوصفهم لفتح مكة بأنه (الفتح الأعظم) لأنه كان حدا فاصلا في تاريخ الإنسانية العسكري بين مرحلة كانت الحروب تقوم فيها على البطش والجبروت والانتقام إلى مرحلة تسود فيها أخلاق الإسلام العسكرية الفاضلة.

وإذا ما حاولنا المقارنة بين فتح مكة وما جرى بعد «11/9» لا نجد مجالا للمقارنة وإذا ما أصررنا على عقد مثل هذه المقارنة فلا يمكن أن نجد غير مقابلة contrast لا مقارنة comparison لأن «11/9» حدث مازال غامضا ومازالت أهدافه كذلك، حتى من ادعوا مسؤولية القيام به هناك كثير من الشك حول مدى مصداقيتهم خاصة أن إعلانهم ذلك ترتب عليه دمار كبير لبلاد المسلمين. ومما يزيد من الشكوك في الأهداف والدوافع لمن استغلوه في شن الحروب أن ثقل الانتقام الأمريكي والأطلسي لم يوجه لمن ادعوا المسؤولية بل وجه إلى أطراف أخرى لا ناقة لها ولا جمل في ذلك، ومنها العراق الذي اعترف الرئيس الأمريكي السابق بوش الصغير أنه هاجمه انتقاما لأبيه الذي اتهم رئيسه بتدبير محاولة لاغتيال والده فدمر العراق واستباح حرمات أهله وأعراضهم وأموالهم ولم يتسامح لا هو ولا جيشه الهمجي ولا أزلامه الذين زرعهم على قمة هرم السلطة في العراق لا مع امرأة ولا رجل ولا طفل ولا عجوز ولا مبنى ولا أثر تاريخي ولا حتى بيئة أو هواء، ولم يغادر ذلك الأهوج السلطة في بلاده قبل أن يعلق الرئيس العراقي السابق على حبل مشنقة انتقاما لأبيه الذي مازال على قيد الحياة، ملطخا بدمه قميص إحدى طوائف العراق حتى يضمن هو والصهاينة عداء أزليا يحول بين العراقيين والمصالحة أبد الدهر. ونفس الشيء يقال عن أفغانستان وشمال باكستان وغزة وغيرها من بلاد المسلمين التي تعربد فيها القوة الغربية الهمجية الغاشمة، مما يدفعني لإيقاف المقارنة أو المقابلة بين الحدثين وعدم الاستمرار فيها لأن مزيدا منها يعني مزيدا من الألم للقراء ولي.. وهكذا يمكن أن يرى أي إنسان الفرق بيننا وبين غيرنا. ولكن ما يحزنني ويحزن كل المسلمين هو هذا الاستسلام المهين وعدم الأخذ بأسباب القوة ورد الصاع صاعين على تحرشات الأعداء وجرائمهم واستباحتهم لكل مقدس لدى المسلمين، فالعفو لا يكون إلا عند المقدرة، وحينما عفا المسلمون عما سلف فقد كان ذلك عند المقدرة، أما اليوم ونحن في أدنى مدارك الضعف والهوان فإن العفو مرفوض كما رفضه نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام في بدر حينما كان الإسلام ضعيفا، وكما رفضه أيضا حين وفد إليه أبو سفيان في المدينة بعد نقض قومه لعهد الحديبية. والسلم لا يجنح لها المسلم إلا (بعد) جنوح العدو لها وليس العكس كما يحصل الآن، ولكن حسبنا الله ونعم الوكيل.

عكاظ 26/9/1430هـ