تقبيل الحجر الأسود والشرك المزعوم
في بلادنا أثقل كاهل ساكنيها الفتاوى من كل نوع، منها الكثير الذي لا يبنى على علم ولا يستند الى دليل، وغالبه يخرج مخرج الرأي المجرد، الذي يدفع اليه الهوى، إما تعصباً لمذهب او اتباعاً لمنهج مبتدع، أو رغبة في الظهور لتحقيق شهرة مبتغاة، ولو كان ذلك عن طريق “خالف تعرف”، في هذه البلاد اذا جاء مثل أخي الاستاذ نجيب يماني يفجر كل يوم قضية ملتبسة، وجب أن ننبهه لما وقع فيه من اخطاء، فقد اراد اخونا نجيب ان يعيدنا الى المربع الاول في قضية رؤية الهلال بالعين المجردة، تمسكاً بألا ثبوت لبداية شهر رمضان إلا برؤية الهلال عبر العين المجردة، ظاناً ان هذه الرؤى أمر تعبدي ولم يفرق - عفا الله عنه - بين حكم غير معقول المعنى لا تدرك الحكمة من تشريعه، وهو الذي اطلق اهل العلم ان الحكمة فيه تعبدية، وما سواه من الاحكام المعللة التي ندرك حكمتها فطاش سهمه حفظه الله، بعد ان أرتضى االجميع قرن الحساب مع الرؤية في اثبات الشهور، ولم يعد لما طرح فائدة تذكر،
وطرح مرة اخرى الجدل في قضية الأمر فيها محسوم لصالح غير الرأي الذي طرحه، والذي زعم فيه ألا عمرة للمكي، مخالفاً بهذا جمهور الفقهاء في المذاهب الاربعة، الذين لم يروا فرقا بين المكي وغيره في وجوب العمرة مرة في العمر او استحبابها، وان له التطوع بها بعد ان يحرم بها من الحل، وهم كغيرهم من المسلمين في حل تكرار العمرة، وذلك ما كان عليه الفتوى عبر العصور، والادلة الشرعية عليه متوافرة، وقد أعددت في هذا الباب بحثاً مطبوعاً تحت عنوان”عمرة المكي بين المؤيدين والمعارضين” بينت فيه الادلة على رأي الجمهور المعتمد، واثبت أن من شذ بقول ان اعتمار المكي بدعة، لا يمتلك على ما يقول دليلاً شرعياً واحداً،
واليوم في ما نشر يوم الجمعة 14/9/1430هـ في الرسالة نرى أخانا نجيب ينقل الاحكام، فما كان منها فرعاً باتفاق يجعله من احكام الاصول(العقائد) وما كان حكمه من الفروع الاستحباب يرفعه الى ان يكون شرطاً، فقد توهم ان تقبيل الحجر الاسود في الطواف متعلق بالعقائد، وما هو الا حكم فرعي، وليس بواجب ولا شرط في الطواف، ولم يقل أحد من اهل العلم الذين يعتبر قولهم بشيء من ذلك ابداً، وما الزعم بأن تقبيله لا اصل له في الشرع فتلك فرية لا يصح ان تصدر عن من له علاقة بالعلم، فقد وجه سيدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اصحابه بقوله:خذوا عني مناسككم، وقد فعلوا فقد رأوه يقبل الحجر الاسود اذا كان يطوف ماشياً، ويشير اليه اذا كان راكباً، وقد قبل المسلمون الحجر أثناء طوافهم من لدن ذاك الزمان حتى اليوم، فالقول بأن تقبيله شرك تهمة عظيمة لا يجرؤ عليها أحد يخشى الله، والتقبيل سنة في كل مذاهب المسلمين المعتبرة، والزعم بأنه لكونه حجراً تقبيله شرك، مثل ان يقال ان الطواف بالكعبة وهي مبنية بالحجارة شرك ايضاً، وان من الركن اليماني واستلامه شرك ايضا فما هو سوى حجر، ولا يعني فعلنا ذلك أننا نعبدها أو نشركها في عبادتنا لربنا فهذا فهم سقيم لا يقول به عاقل، وانما هي مناسك أخذناها عن الشارع الحكيم متمثلاً في قول الله عز وجل وقول رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - وفعله وتقريره، وتعبدت الامة ربها بها على مرِّ الزمان، ولا أحد من المسلمين حتى جهلتهم يعتقد أن الحجر الاسود او حجارة الكعبة تضر او تنفع، ولا يقبّلون هذا ويطوفون حول هذه بهذا القصد، وحتماً التعبد عندها ليس من هذا الباب،
ولا يدخل تحت عموم أدلة الشرع التي تنهي عن الشرك، إلا اذا ساء الفهم واستغلق العقل، واريد اتهام اهل الملة بالشرك، وكل من سرد أخي نجيب اسماءهم وكتبهم مثل البيضاوي والسبكي والشوكاني وأبن الاثير والبغدادي والنووي وابن تيمية ووابن الهمام وابن النجار والغزالي وابن الحاجب، كل اولئك لا يقول بقول الاخ نجيب بأن تقبيل الحجر الاسود شرك، ومن يراجع المواضيع التي ذكرها سيتحقق من ذلك ولا أن حديث سيدنا عمر بن الخطاب عن تقبيل الحجر الاسود لا يؤخذ به لأنه انفرد به بروايته، فقد انفرد رضي الله عنه بحديث من الاصول هو قوله - صلى الله عليه وآله وسلم (إنما الاعمال بالنيات وانما لكل امرئ ما نوى)، وليس الامر كما يدعي الاخ نجيب ان تقبيل الحجر مما توافر الدواعي على نقله، ولا بد أذن ان يرويه اكثر من واحد، فلا قائل بهذه سواه، وهو أمر اعني تقبيل الحجر الاسود كاد ان يصبح من المعلوم من الدين بالضرورة، تناقلته الاجيال جيلاً بعد جيل دون نكير، بل ان جل من ذكر اسماءهم يرون ان تقبيله من سنن الطواف لو رجع الى كتبهم في الفروع، ونسبة القول اليهم بأن تقبيل الحجر الاسود شرك او انه يدخل تحت عموم الادلة الناهية عن الشرك تجن عليهم وافتراء،
واما ان خبر الاحاد لا يفيد القطع واليقين فصحيح لا حجة لاخي نجيب فيه، فخبر الآحاد وان لم يفدهما فانه يفيد العمل في قضاياالفروع، وتعتمد كثير من قضاياها عليه، بشرط صحيته سنداً ومتناً، وهو ما توافر في حديث سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن تقبيل الحجر الاسود طاعة لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم لأن لانه يضر او ينفع، وقد لا يدرك أخي نجيب ان الحديث الغريب الذي يرويه الواحد عن مثله يؤخذ به ان كان صحيحاً، فلا يسقطه انفراد الراوي به، وحشد اسماء الكتب واسماء مؤلفيها لا يعني ان ما يقوله اخي نجيب صحيحا،او انهم يشاركونه رأيه، ولعله دوما يوهم الناس بهذا الحشد ان غرائبه التي اعتاد الاتيان بها منسوبة الى العلماء، فهذا لون تلبيس تمنيت على أخي نجيب الا يلجأ اليه، فما يهوى ان يطرحه من رأي مجرد فلينسبه الى نفسه ولا يحمل أحداً غيره غيره وزره، خاصة اذا كان من هذا العيار الثقيل، الذي ينسب به سائر الامة الى الشرك عفا الله عني وعنه، وكم تمنيت عليه ان يتريث في كل ما يطرح، وان يعرضه على من هو اعلم منه بهذه القضايا، سلامة لدينه، فمن يجعل العبادة المشروعة شركاً ماذا نقول له وقد اصبح لدينا ممن يتوهمون الشرك في كل شيء ممن ارهقونا بدعاويهم الباطلة، فلا تزد اخي الحبيب نجيب الطين بلة وفقني الله واياك لما يحب ويرضى انه سمعيب مجيب.
المدينة 24/9/1430هـ