الانتقائية في نزع الملكية .. والمساس بالعدالة

أعلنت أمانة جدة وشركة جدة للتنمية والتطوير العمراني عن مشروع تطوير منطقة الرويس بجدة ، وتضمن الإعلان مخططا يوضح حدود منطقة التطوير. وقد لفت انتباهي في الإعلان الانتقائية في نزع الملكيات لصالح المشروع ، مع العلم أن الإعلان يستند إلى نظام نزع ملكية العقارات (للمنفعة العامة) ووضع اليد المؤقت .. في حين أن ذات الإعلان ينص على نزع الملكية لصالح شركة جدة للتنمية والتطوير العمراني ، والشركة ليست منفعة عامة !!

الانتقائية ظاهرة جداً في المخطط المصاحب للإعلان ، - كما كانت كذلك في مشروع طريق الملك عبدالعزيز في مكة المكرمة - إذ تم ضم المساحة الواقعة ما بين طريق الملك عبدالله جنوباً ، وشارع المعادي شمالاً ، وشارع حائل شرقاً ، وشارع فيض الرحمة غرباً ، للمشروع ، وتم استبعاد مساحة مشابهة لها تماًما ، سواء من جهة التخطيط أو الشوارع أو مساحات الأملاك ، وملاصقة لها وتقع غربها ، على شارع الأندلس ، ونفس الشيء من جهة شارع فلسطين .. وهذه الانتقائية فرضتها مصالح أخرى غير المصلحة العامة التي تجيز نزع الملكيات الخاصة ، وهي مصالح ومحددات القطاع الخاص الممثل في الشركة المطورة ، وذلك لتحقيق الجدوى الاقتصادية للمشروع ، وهي بالمناسبة نفس الانتقائية التي فرضها مبدأ الشراكة مع القطاع الخاص على مشروع معالجة وتطوير الأحياء العشوائية بمنطقة مكة المكرمة ، عندما بدأت في معالجة العشوائيات في المواقع ذات الجدوى الاقتصادية ، وأجلت الأخرى ..

إن الانتقائية في تحديد مناطق التطوير ، وفي نزع الملكيات التي تدخل في نطاقها ، تتجاوز المصلحة العامة ، وتختلط بمصالح خاصة لفئة قليلة ذات ثراء أصلاً ، وهي في نفس الوقت على حساب فئة كبيرة - نسبياً - يغلب عليها ضيق ذات اليد .. فما هو ذنب صاحب الملكية الذي وقعت ملكيته في مناطق أو أحياء ذات جدوى اقتصادية ، لكي تُنزع ملكيته تحت عنوان معالجة العشوائيات ، وهو في الغالب لن يتمكن من الاستمرار في الشركة لصعوبة توفر البديل أثناء تنفيذ مشروع التطوير ؟؟

وما ذنبه عندما يكون نزع ملكيته بسبب الجدوى الاقتصادية للشركة المطورة فقط ، وليس المصلحة العامة؟؟

والأصعب أنه ليس له الحق في الامتناع عن الدخول في الشركة ، وهنا جانب آخر أرى فيه أيضاً مساساً بالعدالة ، وهو المتعلق بما ورد في لائحة تطوير العشوائيات في منطقة مكة المكرمة ، حول تظلم أصحاب الملكيات ، حيث تنص المادة 77 منها : يحق للملاك الممتنعين التظلم لدى ديوان المظالم ، على أن لا يعيق ذلك نزع ملكياتهم لصالح مشروع التطوير ، وتسيير المشروع بجميع مراحله ، وبالتالي فإن أي تظلم يجب أن لا يعيق أعمال شركة التطوير من إتمام أعمالها سواء بالنزع أو الإزالة أو البناء والتطوير ، على أن تلتزم شركة التطوير بما يقضي به ديوان المظالم تجاه التظلم. (المدينة 19/12/1429هـ). ولا أدري ما هو رأي مجلس القضاء الأعلى ، ووزارة العدل ، وديوان المظالم في نص اللائحة ، الذي تجاوز السلطات القضائية بشكل صريح ، في حين أن المعلوم والمعتاد أن تتوقف جميع الإجراءات في موضوع أية قضية منظورة في القضاء ؟! ثم ماذا لو حكم ديوان المظالم ببطلان نزع الملكية أصلاً لصالح شركة التطوير ، فكيف ستلتزم الشركة بما يقضي به الديوان – حسب نص اللائحة - وقد وضعت يدها على العقار وأزالته وبنت مكانه ؟؟

لقد سبق لي أن وقفت على حالة فيها انتقائية في نزع الملكيات لصالح مشروع تطوير في المنطقة المركزية بمكة المكرمة ، حيث تم نزع ملكيات أصحاب العقارات القديمة والصغيرة ، وترك الملكيات الحديثة والكبيرة ، وعندما عارضت ذلك ، وقلت إن الانتقائية تتجاوز المصلحة العامة ، وفيه تحقيق لمبدأ زيادة الأغنياء غنىً ، وزيادة الفقراء فقراً ، وأن الواجب هو تحديد مقدار الحاجة للتطوير ، والحرص في تقدير المصلحة العامة ، وأن تركيز النظر على التطوير - وهو ما ذكره أحدهم في التعليق على اعتراضي - لا تبرأ به الذمة أمام الله عز وجل قبل كل شيء ، وأمام الملاك الذين هم ضمن الرعاية والمسؤولية. إن منهج تطوير العشوائيات الحالي ، والمتمثل في إعلان مناطق للتطوير وتمليكها لشركات القطاع الخاص ، هو في رأيي صورة من صور تركيز الثروة ، لتكون دولة بين الأغنياء منا ، في حين أن البديل الذي طالبت ولا أزال أطالب به ، وهو قيام الدولة بشق الطرق وتأسيس البنى التحتية ، - والظرف الآن حيث الوفرة المالية لدى الدولة موات جداً - هو بديل يحقق نوعا من أنواع توزيع الثروة ، وذلك من خلال ارتفاع جدوى الاستثمار في الأحياء بعد التطوير ، وارتفاع أسعار ملكيات الشرائح المتوسطة والفقيرة في المجتمع ، بالإضافة إلى حصولهم على نصيبهم من مزايا توافر البنى التحتية في أحيائهم .. إنني على ثقة بأن المسئولين حريصون على رعاية جميع فئات المجتمع ، وأن النوايا الصادقة والمخلصة تجاه المصلحة العامة متوافرة ، ولكن هناك من يستعجل النتائج ، وهناك تقاطع في المصالح ، وهناك من يسعى لمصالحه الخاصة – القطاع الخاص - ، وهناك نهّازو الفرص ، وهناك من ينطبق عليهم (يا غافل لك الله) وهم غالبية سكان العشوائيات ، ولذلك أضع هذه الرؤى تحت أنظارالمسئولين من باب التعاون على البر والتقوى .. وأداء لواجب المواطنة والنصح لمن بيدهم - بعد الله - جريان هذه الأمور .. فلعل الله أن يُحدث بعد ذلك أمرا ينفع به الناس .. و الله ولي التوفيق ..

المدينة 5/8/1430هـ