الرحلة من ساوباولو إلى مكة على جناح حمامة !
ويقرضُ الشاعر القومي المهجري العملاق إلياس حبيب فرحات، شعراً حديثاً من مهجرهِ البعيد في حاضرة ساوباولو. وكما هي شهرة الشعر المهجري، كانت قصيدة طروبة، غنائيّة، تحتفي بالحب والحياة. ومنذ أن نشرها في صحيفة "العُصبة الأندلسية" منبر شعراء الناطقين بالعربية في أمريكا الجنوبية، مطلع الثلاثينات الميلادية من القرن الماضي، تُبحرُ القصيدة من يابسة البرازيل، إلى عدة محطات، لتحط في إحداها على صفحَات صحيفة "صوت الحجاز"، التي كانت بدورها "لسان حال النهضة الأدبية والفكرية في الحجاز" - كما يقول مؤسِّسها محمد صالح نصيف، فتتلقفها أيدي وقلوب الناشئة والشيوخ، بانفعال وإعجاب، انسجاما مع ذائقة المرحلة.. وكلها بضعة أيام ويصل دوي القصيدة، المُحلّقة من أثير البرازيل، إلى مسمع عملاق الأغنية المحلية في مكة، الرائد العملاق حسن جاوا، فتشدّه لغتها المُشرّبة بالعاطفة، المحلاة بالشعور والإحساس، فيضرب لها لحناً موسيقياً أصيلاً من عِندياته، ويشرع في غنائها من تلقاء ذاته على طريقة الدانات العريقة.. كان يردد بصوته العِملاق الجهوري " يا عروس الروض يا ذات الجناح.. يا حمامة # سافري مصحوبة عند الصباحِ بالسلامة # واذكري شوق مُحبٍ ذا جراحٍ وهُيامه " .. كان يغني قصيدة إلياس فرحات المهجرية، بروحٍ حجازية خالصة، كمن يملأ الدنيا ألحاناً تزغرد في مسمع الأيام بحنجرةٍ صافية الرنين.. وعلى الرغم من غياب الراديو الوطني، وكما يروي شهود المرحلة، فكله ظرف أسبوع، وإذ بالأغنية الجديدة تنتشر في حوائر مكة وحاراتها العريقة انتشار النار في الهشيم. تلوكها ألسن الجماهير، ترتفع دانتها في الأفراح والسهرات، يتداولها الناس على كراسي المراكيز، وفي مقاعد البيوت، ومكة حينها لم يكن يخلو فيها بيتُ من آلة العود أو الكمنجة. هكذا تتحول الأغنية التي سافرت كلماتها العربية الفصيحة من مطارح النوى؛ من أثير البرازيل، عبر المحيطات إلى أثير بلاد العرب، وكأن مكة تُأكدّ في كل مرّة، على قدَرَها كمركز إشعاع وانعكاس في آن. فهاهي الأغنية المُهاجرة تستحيل (فلكلوراً) مكياً شعبياً حياً، يغني الناس كلماتها بإعجاب وإكبار ونشوة. إنها الثلاثينات الميلادية، الأكثر تلويناً وصخباً في تاريخ مكة الثقافي. كأن مكة كانت تخلع ثوباً قديماً تطرزه دانات معبد وسريج، ومجارير بيئتها الخصبة، وموشحات الشعر الأندلسي عند ابن زيدون وابن خفاجة، ومنظومات الشعر الحميني الصنعاني، لتستبدله بثوب حداثي رشيق فيه شيء من خيوط قصائد الشعر الحديث الحيوي المتدفق المعاني، فيه شيء من النزعة الرومانسية الإبداعية، فية شيء من نفحات رواد الإحياء بالمهجر؛ جبران خليل جبران، إلياس فرحات، إيليا أبو ماضي، وفوزي المعلوف، وغيرهم. وإذا كانت نزعة التجديد في الأدب الحديث بالجزيرة العربية، تأتّت من اتصال مكة بالشارع الخامس بنيويورك - بلدُ جبران خليل جبران، فإذا بنزعة التجديد في الطرب والشعر الغنائي تغمرنا من رياض ساوباولو، ومرتفعات ريو دي جانيرو، وسهول بيلو أوريزونتي عاصمة ولاية ميناس البرازيلية.
وإذا كانت أغنية (يا عروس الروض)، مظهراً من مظاهر الطرب الحجازي الأصيل، التي تعاقب على غنائها، بشيء من التقليد الراسِخ، رموز وأجيال الأغنية السعودية الحديثة.. بدءاً من رائدِها، وصانع لحنها الأول؛ حسن جاوا، فمحمد علي السندي، إلى محمد عبده، فعبادي الجوهر. فإنها تعبيرٌ - في الآن ذاته - على (تقدمية) مكة، وألمعيتها، في تلقفِ مواضيع وقوالب الشعر الحديث، دون ممانعة أو نفور، ومظهرٌ من مظاهر التثاقف الحضاري التي درجت عليها مكة منذ أن تقرّشت في بطحائها قريش، بل، وصورة حيّة على عبقرية مكة في رعاية أنماط التواصل بين الثقافات والحضارات - في إسقاط لأوهام التقاليد اللغوية والفكرية، أو القيود الجغرافية أو العقائدية – أليسَ أجمل ما غُنيّ في مكة، هي القصائد الحديثة لمسيحيي العرب، سواء لإلياس فرحات، أو إيليا أبوماضي، أو بشارة الخوري؟. أليس أعذب من غنّت مكة هي السيّدة فيروز، ابنة وديع حداد؟
ولعل هذا صنيع النهضة العربية التي انطلقت من مكة عام 1916 ضد التغلب التركي، وصنيع الفتح السعودي ورسوخ وحدتِها الزاخرة العظيمة التي جلبت معاني الاستقرار والانفتاح. إذ اتصلت المراكز الثقافية وتضافرت، فتفتقت الذهنيات، ووجد الروّاد أنفسهم يشقون الطريق، مُرحّاً بإسهامهم في إرساء قواعد جديدة في الأدب والفن والفكر والسياسة والمجتمع. وقتها أمكن للثقافة المكّية الجديدة القيام بدورها الرائد في تهذيب الذوق الفني، وفي إرهاف الحس الأدبي، والشعور الإنساني الرفيع في البلاد. أي نعم، لقد كان الإنتاج الثقافي، مُتحرراً خصباً، لا يستعبده التقليد، ولا يستهويه إلاّ التطلع إلى الأمام، حيث الآفاق الرحاب تسطع على هاماتها أشعة الفجر الجديد الوضّاء.
إن أغنية (يا عروس الروض)، ليست مجرد علامة طربية من ذخائر هذه البلاد الثمينة، بل صورة مُترعة بالرمزيات؛ هي صورة من صور التواصل الثقافي، والتمازج الحضاري، العابر للحدود والقارات. إن قصيدة يكتبها شاعر عربي مهاجر إلى بلاد البرازيل، تتلقفها مكة وتحولها في محض عفوية إلى فلكلور شعبي، يشع اتقاداً من جبالها ووهادها، ليعرفها العالم العربي كله فيما بعد، استعارةً من ملحنها ومُغنيها الأول حسن جاوا، فتُغنى عنه؛ من أطراف الكويت عند عبدالله الفضالة، حتى تخوم السودان عند عبدالعزيز محمد داوود. لعل هذه هي حكاية (مكة) باختصار.
الوطن 24 جماد الاولى 1430هـ