حادثة مكة.. الجريمة بلا حراسة
** ما أشد أن يستفيق الإنسان على فاجعة، أو أن تباغته حادثة!! أحيانًا عنصر المفاجأة يثير روعك.. تمامًا مثل ما تثيرك الفاجعة ذاتها!! وحادثة ضحى الاثنين الماضي.. أو حادثة مكة -إن شئتم- هي من تلك الفواجع التي تقد العروق!!
** أنا لا أعني فاجعة الموت في حد ذاتها.. فلا أحد يجعل الموت خارج حساباته، ولا أحد يلغي أو يستثني من ذاكرته إرادة الرب في كل حين!.. لكنك أحيانًا تجد نفسك في استغراب وذهول أمام حادثة بعينها.. ربما لهولها، وربما لأسلوبها، وربما أكثر لمفاجأتها!!
** حادثة مقتل الأستاذ فايز الشنبري -يرحمه الله- داخل الحرم المدرسي، وبين طلابه هزّت وجدان المجتمع المكي! ولن أستعيد تفاصيل الحادثة، فأنتم يمكن قد قرأتم عنها (الكثير).. خصوصًا وأن صحافتنا -ماشاء الله- في تسابق محموم كي تجد حادثة تشبعها لطمًا! ولكني أبدأ من تشييع الجنازة مغرب يوم الثلاثاء الفائت! المشهد كان مثيرًا جدًّا، ومهيبًا جدًّا!أعداد غفيرة، وجوم، حزن، ذهول، صمت مخيف، لا تكاد تسمع إلاَّ ركزًا من شذرات دعوات الترحّم والغفران!!
** هذا المشهد الذي قل أن تراه يشهد لصاحبه بمكانه ومكانته، ويكفي الشنبري شرفًا أنه من حفظة كتاب الله الكريم، وأنه مربٍّ قدير، وشيخ جليل! وما حمل الإنسان نورًا في قلبه إلاَّ كانت أفواه الناس شواهد لفعله!!
** ويا لها من حُسن خاتمة.. الرجل مات في أطهر البقاع (مكة)، وفي يوم من أفضل الأيام (الاثنين).. مات وهو يُعلّم القرآن.. صائمًا، ولتوّه فرغ من ركعتي الضُّحى!!
** (النورانية) سر الفضل.. والفضيلة لغة القبول عند الناس، ولا أبلغ لتزكية القبول عند الإنسان للإنسان من لحظة الموت. فهنا (الصدق)، وهنا (حقيقة). العلائق بين بني البشر حيث تنتفي المجاملات بانتفاء المصالح!!
** وعند حدود المشهد، وعلى وقع الحادثة نتوقف وتبقى لنا الوقفات. الوقفة الأولى مع صحافتنا العزيزة.. من حقّها أن تلاحق الحدث، ومن حق مراسليها أن يقلّبوا كل الأحجار ليقرأوا ما تحتها، وما في جوف التراب، لكنه ليس من حقهم أبدًا.. أبدًا أن يسبروا تفسيرات قد تصل إلى حد المساس بحرمة الميت، أو حتى كرامة الحي. يجب أن نقف عند حدود الحادث المجردة، ونترك لجهات التحقيق الحيثيات والمسببات!! بعض التفسيرات قد تضاعف من الآثار والنتائج دون أن ندري، في وقت نحتاج فيه إلى إخماد النار بدلاً من زيادة اشتعالها!!
** والوقفة الثانية مع كل أولئك الذين يسترخصون دم الإنسان المسلم، ويستسهلون إزهاق روحه.. نقاتل لأبسط سبب، ونُقتل لأتفه سبب!! وما دون الروح المسلمة، فهو تافهة.. أسبابه ومسبباته!! الروح خلقها الله، وعظّمها، وحرّمها، وجعل إزهاقها من أكبر ما يقترفه بشر!! فكيف نزهق روحًا مسلمة بسبب كلمة، أو وشاية، أو أكذوبة، أو حتى خلاف بسيط؟! وحين نفعل ذلك، وقد بدأ يظهر بوضوح في هذا العصر، فإن الأمر لا يتعلّق بخلل عقلي أو نفسي فحسب، ولكن ذلك يعود إلى ضعف الوازع الديني في النفوس! وحين يخبو صوت الحق في دواخلنا، فإننا قد نسلم أنفسنا إلى الشيطان يطوّعها كيف يشاء، ولا أبشع من التطويع الشيطاني للنفس البشرية حين يقدم مسلم على إزهاق روح أخيه المسلم!!
** (يا جماعة).. كارثة حين يقتل -في (عصر العولمة)- مسلمٌ مسلمًا صديقًا له، وعزيزًا عليه، بسبب (قربوعة) سيارة.. تمامًا كما هي كارثة إزهاق أرواح قبيلة بأكملها في عصر (الجاهلية) بسبب ناقة!! هناك يجهلون فوق جهل الجاهلينا، فهل نجهل نحن فوق علم العالمينا؟!
** تعظيم الحرمات يبدأ من العودة إلى الرشد. والعودة إلى الرشد لا تعني العودة إلى (نظرية فيثاغورس)، ولكنها تعني العودة إلى الدِّين. وحين يقوى الوازع في نفوسنا تتجلّى مفاهيمنا، وتنجلي أبصارنا، وتستقيم حياتنا في شتّى مناحيها!! ولذلكم فحين تكثر الجرائم لا تبحثوا عن العقوبات فقط، ولكن ابحثوا كيف نستطيع إعادة الناس إلى جادّة الطريق!!
** أما الوقفة الثالثة.. فهي مع هذه المدارس المشرعة الأبواب، عبر طول المملكة وعرضها!!
مدارسنا سهل دخولها، سهل العبث فيها، سهل سرقتها.. وسهل الخروج منها!! والسبب أنه لا توجد هناك حراسة. واسأل فقط لو القاتل ثار روعه مع منظر الدم، فأعمل مسدسه في كل الرؤوس المكتظة داخل حجرات الدراسة؟ ماذا سيحدث؟ قطعًا سيحدث كارثة كبرى! وأسأل أيضًا: لو دخل معتوه اليوم، أو بعد غدٍ إحدى مدارسنا في أي مدينة وهو يحمل مسدسًا، وأطلقه على مَن بالمدرسة.. تُرى أين ستكون حدود الحادثة؟ ما هو حجم الجريمة؟ وكم نفسًا ستموت؟ ثم مَن يوقفه؟!!
** يا (سادة) نحن في مرحلة تشهد متغيرات كثيرة.. نحن مستهدفون بالجريمة، ولدينا عناصر وافدة تحترف الجريمة، ولدينا عنف، وعنف أسري، وسرقات، وجرائم منظّمة، فلابد أن نفهم طبيعة المرحلة، وأن نتعامل معها بوعي. وأقل ما في هذا (الوعي) هو التنبه والاحتراز. لذلك فلا يمكن أن تبقى أبواب مدارسنا مشرعة كما هو الحال قبل أربعين سنة، لابد من الحراسة! و(حراسة المدارس) الله يسلّمكم.. غدت مثل حكاية البيضة والديك، ما بين وزارة التربية والمالية. التربية تراها (ضرورة)، والمالية تراها (خسارة)، ونسيت أن (الأرواح) أكبر من خسارة كنوز الدنيا. وما أرجوه أن تفتح هذه الحادثة ملفات الحراسة العالقة، ولعل المالية تعيد طريقة حساباتها من جديد!!
المدينة 19/6/1430هـ