ما حاجة جامعاتنا لمثل هذا؟

إن العلم الشرعي في جامعاتنا متعدد الكليات والمعاهد، والدراسات العليا فيها تخرج فيها المئات، بل الآلاف منذ إنشائها، وظني أنها لم تعد في حاجة إلى أن تستقدم من بلداننا العربية أحدًا للتدريس في جامعاتنا، فقد مضى الزمان الذي اضطررنا فيه إلى الاستعانة بإخوان لنا من بعض أقطارنا العربية، جلّهم ممّن لم يحصلوا الدرجات العليا العلمية المؤهلة لهم في أن يكونوا أساتذة في الجامعة، وبعضهم ظن أن بضاعته العلمية المزجاة لن تروّج عندنا إلاَّ إن طعّمها ببعض ما لدى بعض طلبة العلم عندنا من تشدد جاوز كل حد، حتى حرّم أصحابه الكثير من المباحات، وحتى شعر الناس ألاَّ شيء يحل لهم إلاَّ أن يفعلوا شيئًا أصلاً، وأن يصمتوا نجاة من الحكم عليهم بالكفر، أو الإلحاد، أو النفاق، أو الابتداع، أو الفسق، وضاق على الناس ما اتّسع، فجاء هؤلاء في الثمانينيات الهجرية (الستينيات الميلادية)، وبعضنا حينئذٍ على مقاعد الدرس في كلية الشريعة بمكة، وهي الوحيدة آنذاك الممثلة للتعليم فوق الثانوي في بلادنا، مع كلية أخرى ناشئة للمعلمين أصبحت في ما بعد كلية التربية، فرأى بعضنا آنذاك التُّهم تنزل عليه جزافًا، فهذا قومي، وذاك يساري شيوعي، وهذا مبتدع يحتفى بمولد سيد الخلق المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، ونال بعضنا شديد الأذى لا لشيء إلاَّ لأنه يختلف مع هؤلاء على رأي، وعندنا من طلبة العلم مَن يسمع لهم، وهم أرادوا أن يثبتوا لمن تشدد من طلبة العلم في بلادنا أنهم الأقدر منهم على هذا المنحى، والأشد انتصارًا له، فلمّا انتبه إخواننا لكل هذا، وبدأوا في تنحية هؤلاء عن التدريس في الجامعات كان أثرهم قد انتشر، وأصبح لدينا لهم تلاميذ كثر على نهجهم يسيرون، وعانى مجتمعنا منهم حتى يوم الناس هذا، فما أدري ما حاجتنا اليوم إلى مثل هؤلاء من بقايا جماعات نعتت نفسها بالإسلامية زورًا، واشتغلت بالتحريض في بلدانها على العنف زمنًا، حتى لفظتها بلدانها، فنستقدم بعضهم إلى بلادنا ونسلم لهم أخص ما نؤتمن عليه عقول أبنائنا.

كنت قبل أيام في زيارة لكلية الشريعة التي تخرجت فيها، وحصلت على درجة الماجستير من دراساتها العليا، لحضور مناقشة رسالة دكتوراة في تخصصي (أصول الفقه)، وموضوع الرسالة يتحدث عن المصلحة المرسلة، فعجبت لأحد هؤلاء الذين تحدثت عنهم آنفًا، وهو من قطر عربي علماؤه مشتهرون بالوسطية والاعتدال، والتسامح الجميل مع مَن يختلفون معه، وقد اعتلى المنصة في هيئة لا تنبئ عن أنه أستاذ جامعي، رث الثياب، مقطب الجبين، متحفز للتأويل، وما أن أُعطي الكلمة حتى تدفقت الكلمات من فيه، وكأنها القذائف، متأولة كل عبارة بأنها تساعد كما يقول المبتدعة على منهجهم، فيبتدرونها ويقولون هذا يُقال في جامعة سعودية، ولك أن تتصور بحثًا عن الاستدلال بالمصلحة المرسلة على المعاملات المعاصرة، يخدم الأحكام الفقهية الفرعية في مجالات التعامل المالي والتجاري، ينقلب على لسان الشيخ الهمام إلى حديث في العقائد تحمل فيه العبارات ما لا تحتمل، وتتهم النيات، ولا تفسير لهذا سوى أن الرجل لا يعرف من أصول الفقه إلاَّ القشور، فلا حيلة له سوى أن يعرض عن مسائله، ويتبنى شيئًا لم يعرض له أصلاً الباحث الذي كتب الرسالة، لأنها ليست من موضوعه الذي أعد الرسالة من أجله، لهذا انصبّت مناقشة هذا الرجل على تأويل عبارات في البحث لتصبح في نظره مؤدية إلى بدعة، أو مهيئة لها، حتى أنه لم يحتمل أن تذكر كلمة (سيدنا) قبل اسم صحابي، واعتبر ذلك أنه يحكم على مستعملها بالتشيّع، وعلى
مدى ساعة كاملة لم نسمع من الرجل عن البحث شيئًا يمكن اعتباره مناقشة له، سوى ترديد كلمة البدعة والابتداع، والحديث عن مَن كان يجب أن يرد عليه الباحث من أمثال محمد شحرور، وجمال البنا وأمثالهما ممّن لا دخل لهم في بحث علمي في علم الأصول، الذي يجهلونه أصلاً، وليسوا من أهله، ولا أظن أن لهم أبحاثًا تتعلّق بموضوع الرسالة، وهل من الحكمة أن يعطى مثلهم أهمية في بحث علمي للحصول على درجة علمية بهذه الأهمية؟!

إن وجود مثل هذا الرجل في جامعاتنا لا فائدة له سوى إثارة المشكلات، والتأثير على عقول أبنائنا بما يزيد بعضهم تطرفًا، سمعت هذا الرجل يتحدث عن المشرف على الرسالة أن هذا لا يرضيه، وأن ذاك لا يمكن له قبوله، وهو الأسد الذي ينقضّ على البدعة والمبتدعين فيهزمهم، وكان المشرف لا يعرف عن ما جاء في الرسالة شيئًا، وكأن الساحة العلمية ميدان المعركة، الانتصار فيها للأعلى صوتًا، والأكثر اتّهاما للناس بما ليس فيهم! وأتساءل قبل أن أختم مقالي هذا: ما الذي تستفيده جامعاتنا من مثل هذا؟ ولماذا تستقدمه للتدريس فيها، وفيها من المتخصصين في هذا العلم وسائر العلوم الشرعية مَن هم أقدر منه وأعلم؟ ألم نستطع بعد التخلّص من بقايا الأحزاب والجماعات السيئة السمعة؟

أرجو أن نجتهد اليوم في تطهير جامعاتنا من كل فكر منحرف يقود إلى التطرّف، إن كنا نسعى فعلاً لأمن فكري في وطننا الغالي. فهل نفعل؟ هذا هو ما أرجوه.. والله ولي التوفيق.

المدينة 1/6/1430هـ