حكاية مكان

سنوات طويلة بعيدة، لم أزر خلالها الشامية في مكة المكرمة، رغم وجود بيت الأسرة هناك حتى الآن..

وليس ذلك لأنني لا أقيم في مكة، فأنا أذهب كثيراً للحرم المكي الشريف كما أتواصل مع الأهل والأصدقاء، أهالي مكة الطيبين..

وانقطاعي عن الذهاب للشامية لا يعني أبداً عدم اشتياقي وحنيني بل وفخري بانتمائي لها، فأنا وكما أتشرف وأردد دوماً أنني من مكة واستطرد ومن الشامية بل ومن جبل هندي تحديداً.

ومع أنني تركت المكان مبكراً، وذكرياتي عنه لا تزيد عن صور بعضها واضح في مخيلتي وبعضها الآخر ضبابي. إلا أن ما يربطني بالمكان شيء أقوى من البعد أو التباعد..

وظل في نفسي، في أعماقها الاحساس بالمكان الذي يربطني بتاريخ أسرة أفخر أنني أنتمي إليها، احساس بالاطمئنان بأنهم هناك بعبقهم وعلمهم وتاريخهم.

وعند صدور قرار إزالة هذا الجزء من مكة لصالح توسعة ساحات الحرم الشريف تبادر إلى ذهني أولاً الأسئلة التالية، هل سيزال البيت ويصرف له تعويض؟ أم هل سيبقى ويصبح في مواجهة الحرم – فيرتفع بذلك الدخل الذي سيأتي منه بعد ذلك... إلخ.لكنني عدت إلى المعنى الحقيقي الذي سأفتقده وللأبد، المكان وما يحمله من ذكريات..

تألمت وحزنت.. ثم حاولت أن أتعايش مع الأمر.. حتى طالعت في ملحق المدينة الأربعاء الماضي موضوع (رحيل المباني وبقاء المعاني) للسيد سمير برقة.. الذي أطال في وصف معالم وأعلام وأحداث ووقائع الشامية على مر السنين.. وتمنيت لو أنني كنت أنا كاتبة هذا الموضوع من شدة حلاوة ما كتبه، فما من جزئية أشار إليها إلا ولها في نفسي ألف ذكرى وذكرى..

ورغم أنني كما ذكرت، لم أعش سنوات طويلة من عمري في المكان.. إلا أن تاريخه محفور في أعمق أعماق نفسي..

ووجدت نفسي أسارع الخطى بالذهاب إلى مكة، إلى الشامية، ألقي نظرة أخيرة على بيوت وأزقة عاش فيها الأهل والأحباب.. ومشيت حول بيتنا.. وحول البيوت أشير لابني.. هنا كان بيت فلان، وذلك بيت فلان، هنا كان البازان، وهذه الدرج التي تبدأ مع البيت وتنتهي معه وسمي المكان ذات يوم (زقاق شطا) وهذا هو الديوان الكبير الذي تتوسطه بركة مياه صغيرة.. وهاهم رجال الأسرة العلماء.. يذهبون للحرم لعقد حلقات الدرس، ثم يعودون للبيت ويغشاهم طلاب العلم من مختلف بلاد العالم، يستزيدون من علمهم.. كانت أبوابهم مفتوحة لهم، بل وأكثر من ذلك، فقد كانوا يزوجون بناتهم ممن يتوسمون فيهم الخير من هؤلاء الطلبة.

آااه.. أين من عيني هاتيك المجال؟

تذكرت معه أيضاً عم سرور بائع السمبوسة.. وأقسم أنني لازلت أتذوق طعمها الذي لم أجد له مثيلاً حتى الآن. تذكرت تباسي الشنكو التي ذكرها، وبها إفطار رمضان سمبوسة وشربة وحلا تذهب للجيران.

صعدت طلعة جبل هندي حتى وصلت إلى مدرسة عرفات ثم عدت من جهة زقاق برحة بنجر (زقاق شطا سابقاً) أقف هنا وأتأمل هناك.. واستحضرت بيتين من شعر قديم سمحت لنفسي بحذف وإضافة بعض الكلمات منهما:

 

لى الديار ديار (أهلي)
أقبل ذا الجدار وذا الجدار
فـحـب الديـــار شغــلن قـلـبي
وأيضاً حب من سكن الديار



ودعت المكان وكأني أودع من كانوا فيه ملء السمع والبصر للمرة الأولى.. شعرت برحيلهم النهائي مع رحيل المباني.. التي تحمل عبق أنفاسهم وهم ينشرون العلم بين جنبات المكان..

وإن كان السيد سمير برقة رأى أن رحيل المباني لا يعني رحيل المعاني، فأقول إن أردنا للمعاني البقاء فلابد من عمل مشترك يزيد على مجرد سرد هذا التاريخ للأجيال القادمة وذلك بأن يوثق كل ذلك بأحاديث وصـــور في مطبوعـة أو مطبوعات.. تحكي للأجيال حكاية المكان والإنسان.

جريدة عكاظ 16/3/1429هـ