ولد الهدى فالكائنات ضياءُ ..

وفم الزمان تبسم وبهاءُ .. هكذا قال الشاعر .. في مثل هذه الأيام ، من ربيع الأنوار ، من كل عام يتكرر الحديث عن مشروعية الاحتفال بذكرى مولد الحبيب عليه الصلاة والسلام ، ومن المعروف ، أن المنابر ظلت طول عقود متاحة فقط للطرف الذي يفتي ببدعية الاحتفال ، ورمي المحتفلين به بالبدع والفسوق والشركيات . وهذه الفتوى استخدمت ذريعة من قبل البعض لإقصاء كل من لا يرى بدعية الاحتفال بالمولد النبوي ،

ومن الحجج التي يُدفع بها لإثبات بدعة الاحتفال بالمولد ، قول الرسول صلى الله عليه وسلم «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» ، وأنه عليه الصلاة والسلام لم يحتفل بمولده ، ولا الخلفاء الراشدين من بعده ، وعدم جواز تخصيص أيام بعينها بعبادات محددة .

في حين أن هناك تساؤلات مشروعة في هذا السياق ، يأتي في مقدمتها: هل تُعد قراءة القرآن الكريم ، وتدارس الحديث الشريف ، والسيرة النبوية ، وعموم مجالس الذكر ، والوعظ ، - هل تُعد كلها - مما هو ليس من أمرنا ؟؟ وبالتالي فهي رد على أصحابها ؟؟ وكوْن كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار ، فهل يمكن - فضلاً عن أن يُعقل- أن نبشر من يقرأ القرآن أو يحضر مجلساً من مجالس الذكر ، التي يتضمنها الاحتفال بالمولد النبوي ، بالنار بحجة عدم جواز التخصيص ، في حين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خص مولده بصيام يوم الاثنين ، وقال في الحث على صيامه يوم ولدت فيه ، وخص نجاة سيدنا موسى عليه وعلى نبينا السلام بصيام يوم عاشوراء ، عندما أقر صيام اليهود فرحاً بيوم نجى الله فيه نبيهم ، وقال نحن أولى بموسى منهم.

أليس قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما ليس منه» ينصرف إلى ما هو ليس من الإسلام ؟ فهل التقرب إلى الله بما شرع من صوم وقراءة وذكر ، - و كلها مشروعة في كل وقت - هي مما ليس منه ؟؟

ألم يكن من الأولى بمن أسرفوا في تبديع المؤمنين وتفسيقهم أن يوجهوا جهدهم ونصحهم لتبيين المشروع وغير المشروع من الأفعال والأقوال التي تتم في الاحتفال بذكرى مولد سيد ولد آدم عليه أفضل الصلاة والسلام ؟؟!! بدلاً من تكرار فتاوى التبديع والتفسيق والتشريك ؟؟ والله سبحانه وتعالى يقول ويوجه نبيه عليه السلام (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة) ، ويحذره صلى الله عليه وسلم في قوله سبحانه وتعالى و(لو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك).

فهذا النبي الكريم المؤيد بالوحي ، أُمر باللين واللطف حتى لا ينفض الناس من حوله ، فما بال قومي يرمون الناس بالبدعة والفسوق والشرك ثم يتوقعون أن يسمعوا لهم ..

إن وصم الناس بالبدعة والفسوق والشرك والكفر هو قطع لخطوط التواصل ، وهو بناء للحواجز وموانع لتلقي النصح والدعوة ..

إن من يريد التقرب إلى الله بدعوة الناس إلى الخير ، عليه أن يبتعد عن الغلظة والفظاظة ، وأن يدعو إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة ..
ألم يُنقل لنا من آراء أئمة وعلماء المذاهب الأربعة ما ليس بهذه الحدية في مسألة الاحتفال بالمولد ، فابن عابدين وهو من المحققين في المذهب الحنفي يرى بأن عمل المولد الشريف من البدع المحمودة. وابن عباد المالكي يرى بأن الادعاء بأن المولد ليس من المواسم المشروعة لأهل الإيمان ، وتشبيهه بالنيروز والمهرجان أمر مستثقل ، وتشمئز منه القلوب السليمة ، وتدفعه الآراء المستقيمة . وابن حجر العسقلاني وهو على المذهب الشافعي يرى بأن الاحتفال بالمولد بدعة حسنة. وأما شيخ الإسلام ابن تيمية ، وهو من أئمة المذهب الحنبلي فيقول في اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم : فتعظيم المولد واتخاذه موسماً قد يفعله بعض الناس ويكون له فيه أجر عظيم لحسن قصده وتعظيمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

انقل هذه الآراء ليس بهدف إقامة الحجة على مشروعية الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم ، لأنني أعرف أن هناك من سينقل أقوالاً أخرى لأئمة وعلماء آخرين في المذاهب الأربعة ، تعارض أقوال العلماء التي نقلتها ، وإنما الهدف هو التأكيد على أن في الأمر سعة ، ولا يجوز لأي طرف أن يحتكر الفقه والفهم فيما ليس فيه نص محدد قطعي في دلالته.

فإلى متى سنظل حديين وأحاديين في آرائنا ؟ وإلى متى سنظل نضيق ما اتسع ؟ فالإباحة هي الأصل ، والتحريم لا يكون إلاّ بنص ، ومساحات العفو في شريعتنا هى الأوسع على الإطلاق.

هذا وأرجو أن لا يندفع أحدهم فيرميني بالبدعة أو الفتنة ، كما فعل أحدهم قديماً -عفا الله عنه- عندما ألف كتاباً كاملاً أسماه (الرد على الكاتب المفتون) ليرد على مقال واحد ، نُشر للوالد يرحمه الله ينبه فيه خطيب المسجد الحرام عندما بالغ في الإنكار على المحتفلين بالمولد النبوي ، إلى الحد الذي دفع بعض المصلين إلى الخروج من المسجد الحرام أثناء الخطبة ..

وسأسعد كثيراً بجميع الردود وعلى الأخص تلك التي تكون وفق الهدي الرباني بالحكمة والموعظة الحسنة ، لأن رائدي هو الحق والخير ، والقرب إلى الله عز وجل ، ورسوله صلى الله عليه وسلم . والله أعلم.

جريدة المدينة 19-3-1430هـ