آثارنا الإسلامية والمحافظة عليها

إن من واجب الأمة الإسلامية المحافظة على الآثار النبوية التي تربط الناس بهذا التاريخ الإسلامي العظيم، والسيرة النبوية العطرة، خاصة في هذا العصر الذي اتسم بحرص كل أمة في أنحاء العالم على إحياء تاريخها والمحافظة على تراثها وآثارها.. ونحن لدينا تاريخ عظيم لهذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وكذلك بقية آثار الصحابة والتابعين، والآثار التي تربط الناس بالتاريخ الإسلامي العريق، وتساهم في تثقيف الناشئة والشباب عن كل هذه الآثار العظيمة، بالإضافة لكونها من الوسائل الفاعلة في الإعلام عن الإسلام وتاريخه العظيم، وفي هذا العصر بالذات الذي أقبلت فيه الأمم في العالم على العناية بآثارها التي هي رمز لقيمها ومبادئها، وتصوير حقيقي لحضارتها.. فلابد إذًا أن نواصل الحفاظ على آثارنا، ولا بد من الاستفادة من التقنيات الحديثة لتوظيفها في رعايتها والعناية بها.. ومَن ينظر في بلادنا يشعر بفخر كبير بأنه من فضل الله علينا أن بقيت بين ظهرانينا، وفي بلادنا خاصة في مكة المكرمة، والمدينة المنورة، وأجزاء من شمال المملكة وجنوبها آثار عظيمة تستحق العناية بها والمحافظة عليها، مثل: غار حراء، وغار ثور، وفي المسجد الحرام، وبين جنبات مكة ووديانها، وفي عرفات، وفي منى، وفي طريق الهجرة الخالدة بين مكة المكرمة والمدينة المنورة، وكذلك في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث كانت الهجرة إليها وفيها المسجد النبوي الشريف بكل آثاره الخالدة، وفيها أحد هذا الجبل العظيم الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أحد جبل يحبنا ونحبه)، وعلى مقربة منه جبل الرماة، وقبور الشهداء، وقبر سيد الشهداء حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم، والشعب الذي نهض إليه النبي صلى الله عليه وسلم، واحتمى فيه وحوله الصحابة يفدونه بأنفسهم، وفي المدينة المنورة آثار عظيمة لابد من المحافظة عليها، ومنع العبث بها، أو هدمها، أو تشويهها، وإذا كان بعض الناس يرى أن هناك مَن يقف، ويمارس بعض الممارسات غير الشرعية عند هذه الآثار الخالدة، ويقوم بالتمسح بها أو فعل ما لا يدعو إليه الشرع. فمن الأفضل أن يقف من يرشد الناس ويدلهم على الأخطاء التي يرتكبونها بدلاً من إزالة هذه الآثار وهدمها، وهو تصرف لا يتفق مع سماحة هذا الدِّين، والحمدلله أن أصبحت هناك مؤسسة للآثار برئاسة سمو الأمير سلطان بن سلمان، والتي أخذت تُعنى بآثار كثيرة في مدائن صالح، وفي الشمال والجنوب وفي بعض القرى التي بها آثار قديمة تستحق الحفاظ عليها، فمكة المكرمة والمدينة المنورة وكل الآثار النبوية الخالدة هي الأولى بالرعاية والصيانة والمحافظة عليها والعناية بها، وتوجيه الناس إلى حسن زيارتها، وأنها جانب مهم من جوانب تاريخنا مثل بدر تلك المعركة الخالدة، وآثارها باقية حتى اليوم، وأحد، والخندق، والآبار التي وقف عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشرب منها، ومكان مولده صلى الله عليه وسلم في مكة، وأماكن هجرته وبيته الذي بقي فيه قبل وبعد زواجه من السيدة الكريمة أم المؤمنين خديجة بنت خويلد.

ولابد أن نتذكر أن هذه الآثار الإسلامية هي أمانة عندنا، ولا يجوز ولا يصح إهمالها، أو السماح بالعبث بها، وعندما نتكلم عن الآثار فإننا نعني بها الآثار التاريخية، وهي المخلفات الباقية من المباني والمدن والشواهد الحضارية، وما نكشفه من معالم جديدة، وأدوات ونقود وأسلحة ومخطوطات وغيرها، وهناك آثار إسلامية تتصل بالسيرة النبوية العطرة: «ومغازي الرسول صلى الله عليه وسلم من مواقع: كموقع غزوة بدر، وموقع غزوة أحد، وموقع غزوة الخندق، وجبال: كجبل أحد، وجبل عير، وجبل ثور، وجبل عينين (جبل الرماة)، وحصون: كحصن كعب بن الأشرف النضري اليهودي، حصن مرحب بخيبر، وآطام: كأطم صرار (لبني حارثة) وأطم الضحيان، وأطم بني واقف، وآبار: كبئر حاء، وبئر رومة، وبئر أريس (بئر الخاتم)، وقصور: كقصر سعيد بن العاص بالعقيق، ودور: كدار أبي أيوب الأنصاري التي نزل بها النبي صلى الله عليه وسلم عند وصوله إلى المدينة في الهجرة، ومساجد نبوية: كمسجد القبلتين (لبني سلمة)، ومسجد المستراح، ومسجد الجمعة، ومسجد الفضيخ (في بني قريظة)، وعد «ابن شبة» في تاريخه للمدينة أكثر من ثلاثين مسجدًا بناها عمر بن عبدالعزيز بمحضر من الصحابة عندما كان أميرًا على المدينة، ونقل الحافظ بن حجر في الفتح رواية ابن شبة هذه وتسمية هذه المساجد.

ومن هذا القسم الآثار الإسلامية المتعلّقة بما بعد العهد النبوي من عصور التاريخ الإسلامي، وقد كان في حارة الأغوات بالمدينة النبوية أبنية لمدارس وأربطة من العصر العباسي، وكان من أبرز هذه الآثار مكتبة عارف حكمت التي كانت في الجزء الجنوبي الشرقي من المسجد النبوي، وقد بنيت في مكان بيت السبط الحسن بن علي أبي طالب رضي الله عنهما، وفي شرقي هذه المكتبة دار أبي أيوب الأنصاري بينهما زقاق عرضه أربعة أمتار تقريبًا، ونحن في هذه العجالة لا يهمنا الصنف الأول فهناك مَن يهتم به وهو نوع من الدراسات التاريخية والحضارية وربما الهندسية لا يلامون عليه، فلكل علم أهله، مع أن الكشف عن آثار مَن قبلنا من الأمم داخل في معنى الاعتبار المأمول به في القرآن: «أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِى الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِى الأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ»، « وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّنْ بَعْدِهِمْ إلاَّ قَلِيلاً»، « فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ».

وهناك أمر مهم وهو أن ما يفعله بعض المتطرفين والخرافيين من ممارسات غير شرعية حول القبور والطواف بها فهذا ما لا يجب التسامح فيه، ولابد من إرشاد هؤلاء الناس وتوجيههم ومنعهم من هذه الممارسات، وليس هدم الأثر الذي هو أمانة في أعناقنا يجب أن نحفظها لمن بعدنا.

ولنذكر ذلك الموقف المؤثر يوم هدم عمر بن عبدالعزيز بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت ملتصقة بجدار المسجد، وأدخلها بالمسجد عند توسعته بأمر من الخليفة الأموي الوليد بن عبدالملك، وفيها بيت أم المؤمنين عائشة، وقبر النبي، وقبرا الصاحبين، وحزن الناس حزنًا شديدًا، وكانت من الأيام التي بكى فيها الناس، وقال سعيد ابن المسيب: “والله لوددت أنهم تركوها على حالها، ينشأ ناس من المدينة ويقدم قادم من الأفق فيرى ما أكرم به النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، فيكون ذلك ممّا يزهّد الناس في التكاثر والتفاخر”.

وفي رواية ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية، قال سعيد بن المسيب: «وددت لو تركوا لنا مسجد نبينا على حاله، وبيوت أزواجه ومنبره ليقدم القادم فيعتبر».

وقال عمران بن أبي أنس: «رأيتني وأنا في المسجد فيه نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبوسلمة بن عبدالرحمن وأبو إمامة بن سهل بن حنيف وخارجة بن زيد، وأنهم يبكون حتى أخضل الدمع لحاهم، وقال يومئذٍ أبو أمامة: «ليتها تُركت حتى يقصر الناس عن البناء، ويرى الناس ما رضي الله لنبيه وخزائن الدنيا بيده» (1).

وهناك الكثير ممّا روي عن السلف الصالحين الذين رأوا أن الحفاظ على مسجده وبيوت أزواجه ومنبره وأن الإبقاء عليها للاعتبار مقصد مهم، وعلينا أن نتذكر دائمًا أهمية المحافظة على هذه الآثار، والعناية بها: «فإن وقع من بعض المسلمين غير ذلك عند هذه الآثار فهذا بسبب الجهل، فهم بحاجة ماسّة لتعليمهم أمور دينهم، وليس بسبب وجود هذه الآثار، وهذا هو ما يفهم من صنيع السلف الذين أقروا هذه الآثار، ولم ينادوا بهدمها وإزالتها مع وقوع الأخطاء من بعض الناس في مختلف العصور.

ثم أقول: لماذا لا نستغل وجود هذه الآثار، وارتياد الناس لها (خاصة الحجاج) فننشئ عندها أنشطة لتوعية الناس؟ أليس هذا أنفع للمسلمين وأكثر بركة؟

لكنهم اختاروا بديلاً عجيبًا يوارون به تقاعسهم وكسلهم وعجزهم، وهو هدم هذه الآثار النبوية، واستئصال شأفتها، وهذا البديل الذي اختاروه بحجة مفسدة مظنونة هي وقوع الناس في الشرك أدّى الى مفسدة محققة وهي تغيير الطابع الإسلامي للمدينة النبوية» (2)، فطغى عليها التغريب والفرنجة حيث اختفت المعالم النبوية، وحلّت محلها الفنادق الكبرى، والأسواق المزدحمة، والمطاعم الباذخة.


والله من وراء القصد، وهو الموفق والهادي إلى سواء السبيل..
(1) و (2)- الاثار النبوية بالمدينة المنورة للدكتور ابي مجاهد عبدالعزيز بن عبدالفتاح قاري

نشر هذا المقال بجريدة المدينة الاثنين 22/1/1430هـ