الآثار لن تُزال بمثل هذا

إن الأسلوب الذي يعمد إليه مثل الشيخ أحمد قاسم الغامدي رئيس هيئة مكة في تراجعه عن التراجع الذي سبق بالقول: إن مسمّيات مقبرة المعلاة، وقبر ميمونة، ومقبرة حواء، ومسجد الجعرانة ليست صحيحة، وأنه يطالب بإزالة الأسماء لئلا يظن أن مَن سمّيت باسمه قد دُفن فيها، منعًا لتوهم الناس ما ليس بحقيقة، وطالب بإغلاق هذه المقابر في المواسم، وذلك أنه ليس لهذه المسمّيات مستند ثابت كما يدّعي، ولا ندري ما الذي يريده بالمستند الثابت، فإذا كانت هذه المسمّيات استمرت مئات السنين، وذكرها المؤرخون في كتبهم، وأيّدهم الباحثون، وتناقلتها الأجيال في هذه البلاد جيلاً بعد جيل، لا يعتبر مستندًا ثابتًا فما هو المستند الثابت عنده؟ أيقتصر على رأيه المجرد الذي لا يستند على دليل؟ وقصة هذا الأسلوب الذي اشتهر به بعض مَن ينسبون أنفسهم إلى العلم أراها اليوم في تزايد، رغم أن هذا الأسلوب لم يعد اليوم مقبولاً، في زمن انتشر فيه العلم، وتوارى الجهل، فإن كان مثل هذا في زمن مضى حينما كانت الأمية في بلادنا منتشرة لا يجد مَن يعارضه، لعدم معرفة الناس بالواقع، أو لخوفهم ممّن كان يصرح به وله سلطة أمر ونهي على الناس يخشونه بها، فإن هذا لم يعد له في زماننا -بحمد الله- وجود، وانه لمن أشد الغرائب أن يُقال: إن جبل النور ثابت ومعروف، ولكن مَن يستطيع أن يثبت يقينًا أن الغار الشهير الذي يصعد إليه الناس هو الغار الذي كان يتحنث فيه رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم - فالشيخ لا يرى يقينًا إلاَّ ما بناه على رأيه المجرد، أمّا ما أثبته المؤرخون والباحثون، وما تناقلته الأجيال من أن هذا الغار هو الذي تحنّث فيه سيدنا رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- هو الظن الذي لا يعتمد عليه، وما يقوله الشيخ -عفا الله عنه- اليقين الذي لا محيد عنه.
لقد ظن أنه الأعلم والأقدر على نفي الحقائق الثابتة على مر الزمان، لمجرد رغبته في ذلك، وكذا توهمه أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم- لم يولد في الموضع المعروف الذي تناقلت أجيال المسلمين على مر التاريخ المحافظة عليه أثرًا مرتبطًا بسيرته عليه الصلاة والسلام، لينضم بذلك إلى مَن سبقه الذي أنكر أن يكون سيد الخلق المصطفى -صلى الله عليه وآله وسلم- قد وُلد بمكة، وربّ كلمة تقول لصاحبها: دعني، فالشيخ يقول: (عندما أعاد الرسول -عليه الصلاة والسلام- بناء الكعبة لم يعد بناءها على أساس بناء إبراهيم، مع علمه أن هذا هو الأصوب، وبرر ذلك لحداثة قريش بالإسلام، وبالتالي سكت مَن سبقنا على ما رأوه منكرات خشية الفتنة).. وفي عبارته هذه أوهام عدة، أولها: أن ما لم يفعله سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم- هو الأصوب، وكأن الحكم في ذلك إلى الشيخ ليحكم أي الفعلين من سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأصوب، وما فعله -عليه الصلاة والسلام- من إعادة البناء على ما كانت الكعبة عليه هو الأصوب، بل هو الحق الذي اتبع على مرّ العصور، والوهم الآخر أن من سبقوا من الحكام والعلماء في هذه البلاد سكتوا عن منكرات خشية الفتنة، وهو ما لم يحدث أبدًا، وفي هذا أيضًا خطأ آخر، وكأن بناءه صلى الله عليه وسلم الكعبة على ما كانت عليه في الجاهلية منكر سكت عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- خشية الفتنة، وحاشاه أن يفعل ذلك، فإن خشي عليهم أن يتشككوا في أمر لم ير له ضرورة، وللكعبة في أنفسهم قدر عظيم، فأعرض عنه إلى ما هو خير وحق، فليس في الأمر منكر، ولكن مَن لا يعلم يُوقعه عدم معرفته في ما لو تجنبه لكان خيرًا له، ولعل الشيخ يذكر لنا الممارسات الشركية البدعية التي تتم عند هذه الآثار ويثبتها لنا بالدليل، الذي لا يقبل النقض، فكم من الدعاوى لا تثبت عند التمحيص، وإذا صدّقنا أن هناك ممارسات شركية بدعية عندها، أفلا يمكن إيقافها ومنعها إلاَّ بإزالة الآثار، أو منع الناس من الوصول إليها كما يريد الشيخ؟ فهلا ترك الآثار لمن كلف بحفظها والعناية بها. هو ما نرجوه، والله ولي التوفيق.
ص. ب: 35485 جدة 21488 فاكس: 6407043
ashareef_a2005@yahoo.com

نشر هذا المقال بجريدة المدينة الجمعة 19/1/1430هـ