من مكة المنطلق

في مجلسه الكريم الذي عبقت أركانه بحب أم القرى وما حولها فليس في دنيانا هذه شيء أحق بالاهتمام وأجدر بالتعلّق من مكة المكرّمة التي اختارها الله مقراً لبيته الحرام ومهبطاً لوحيه ومنطلقاً لخاتم رسالاته وقبلة ومحجاً إلى اليوم المعلوم .. كان لنا لقاء مع الأمير خالد الفيصل لا تكلُّف فيه، حرص على سماع الرأي الآخر في روح متوثّبة للإصلاح والمتابعة الشخصية للإنجاز والتطوير مدركاً بعمق بأن ما شرّفه الله به من إمارة يحمّله مسؤوليات جسيمة أمام الله والناس فهو الخبير بأن تطوير مكة والتخطيط لمستقبلها ليس كالتخطيط والتطوير لأي مدينة أخرى، ملقياً على أسماعنا آماله وتطلُّعاته ورغباته الكامنة في أعماق نفسه بتطوير مكة التي انغرس حبّها في نفسه منذ النشأة والتكوين ليتفتّق هذا الحب أفعال خير ومشاريع بركة لمستقبل مشرق، واضعاً بيد مباركة مفاهيم تتناسب وقدسية المكان في عيون الداخل والخارج جاعلاً من كعبة الله المنطلق والأساس وخط البداية لتنمية المنطقة فمنها تبدأ وإليها تنتهي كل الخطط الشاملة للإنسان والمكان فمكة المكرمة هي النافذة التي نطل منها على العالم وعين العالم الذي ينظر منها علينا. فالكعبة تعني مكة ومكة بجلالها وقدسيتها تعني العالم من حولنا فهي مركز الكون ومحوره فخطة التطوير حرصت على المحافظة على الطابع الديني المميّز والمطلوب لأم القرى والارتقاء بهذا المكان المقدّس الذي تتجه إليه أنظار العالم أجمع.

شرح لنا الأمير عن خطته العشرية لخدمة المنطقة وورش العمل التي تناقش وتدرس هذه الخطة لتأتي ثمارها وتحقّق المواءمة بين الإنسان والمكان، كان الحرص على الوقت والتذكير بأهميته هو البداية التي ركّز عليها سموّه، فالوقت هو الركيزة الأولى التي يجب أن يحترمها الإنسان حتى يحترمه الآخرون وأنه ليس هناك مجال لنبدع طالما أننا نهمل الوقت ولا نحترم مواعيدنا، اننا مجتمع مؤهل أكثر من غيرنا لنخرج من بوتقة العالم الثالث ونكون من دول العالم الأول ليس بإمكانياتنا المادية وإنما بدستورنا الذي أساسه القرآن والسنّة فلو اتبعنا الإسلام الصحيح كما أنزله الله وطبّقه رسول الله وصحابته فملكوا الدنيا وسادوا العالم لدخلنا العالم الأول وكُنّا من الفاعلين فيه.

استمع سموّه بصدر رحب لكل التساؤلات المطروحة في مجلسه وطمأن الجميع أن الخطة المطروحة تشمل الإنسان والمكان، وبما أن الإنسان هو الركيزة الأولى والأساسية لأي تقدّم إنساني، فإن هدف الخطة هو التنمية والقضاء على الجهل والمرض وعلى الثقافة السائدة بأن الدولة عليها حل كل المشاكل القائمة، فالمواطن أياً كان موقعه لا يصح أن يرمي بمشاكله على الآخرين ويطلب منهم حلّها وإنما عليه أن يحدّد المشكلة ويضع لها الحل ليساعد نفسه ولا ينتظر أن يأتيه الحل جاهزاً على طبق من ذهب فمن لا يساعد نفسه لا ينتظر من الآخرين أن يساعدوه. فلا بد أن تسود هذه الثقافة في المجتمع حتى لا يحيف أحد على أحد، فالله يحب المؤمن القوي. إن خلق الفرد المسلم في المجتمع هو الأهم في تنمية الإنسان وشعوره بالتميُّز مع الاحتفاظ بالهوية الإسلامية والمحافظة على الشخصية الدينية والأسس التي قامت عليها الدولة ..

منذ التأسيس كانت مكة ولا تزال مكان القلب من الجسد وكانت الرؤية التنموية للمنطقة نحو العالم الأول وبناء الإنسان وتنمية المكان هي الحاضرة. استمعنا إليها من سموّه وشملت استراتيجية متناغمة لتنمية المنطقة والهيكل التنظيمي للإمارة وأن مكتب سموّه سوف يشهد ولادة جهاز خاص يتبع مكتبه مباشرة مهمّته تلقّي استفسارات المواطن والإجابة عليها بكل شفافية والخطة العشرية لمشاريع مكة المكرمة وتطوير الأحياء العشوائية والتي تُعتبر عائقاً أساسياً أمام عملية التنمية والبناء مؤكّداً أنه لا ضرر سوف يصيب ساكني هذه المناطق فالتعويض المادّي والأخذ بموجبات العدالة لتقييم أثمان العقارات وفق الأسس الشرعية وتحقيقاً للمصلحة العامة وبالرضا التام لأصحاب الحقوق لا يخالطه جور أو غبن ولا مظلمة، فمن رغب في سكن فرغبته موضع اعتبار ومن أراد المال فله ذلك ومن كان تعويضه لا يكفي ليتملّك فسيُدفع له الفرق، في بشارة كريمة سوف يُعلن عنها قريباً.

 وكان مجلس مكة الثقافي حاضراً لتأصيل منهج الوسطية والاعتدال وفرض رؤية الاعتزاز بالدين والانتماء للوطن ومحاربة ثقافة الإحباط ونشر ثقافة الأمل والثقة بالنفس واحترام النظام الذي هو وسيلة من وسائل رقي الأمم وتقدّمها. وتكتمل منظومة الفيصل بإذكاء روح المنافسة والارتقاء بمستوى الأداء والجودة لنمضي نحو العالم الأول بجائزة مكة للتميُّز مُطمئِنَاً الجميع أن روحانية مكة وخصوصياتها ستبقى ممتدة في عمق الزمن وأنه ليس لأحد الحق في تغيير التميُّز العمراني لمكة المكرمة وشواهدها وأن كل ما يُقال عن هدم أثر أو مسجد إنما هو من الإشاعات ورغبة في نفس قائلها وسيكون هناك متحف يرصد معالم تاريخها وتطوُّر الحياة الاجتماعية والسياسية والفكرية على مدى قرون شكّلتها الأحداث والرجال. فمكة ليست هي الجغرافيا وحسب وإنما هي الوحي ومحمّد والكعبة والحرم والتاريخ فهذه هي خصوصياتنا أما غير ذلك فنحن مثلنا مثل الآخرين.

ولم يسع الوقت لأطرح سؤالي على سموّه الكريم بأن أطفالنا في حاجة إلى ملاعب ونواد رياضية ومكتبات داخل الأحياء فهم محرومون من كل أساليب الترفيه وقضاء أوقات الفراغ، فلا بد من وضعهم في الرؤية التنموية، كما غابت المرأة من مجلس سموّه فلا بد أن يكون لها نصيب وافر في المشاركة وإبداء الرأي فهي نصف المجتمع وعامل أساسي في عملية التنمية والبناء. 

نشر هذا المقال بجريدة عكاظ الثلاثاء 16/1/1430هـ