إغلاق مكتبة الثقافة... تغيب لبدايات الثقافة

حينما يكون الحديث عن بدايات الأدب والثقافة في المملكة العربية السعودية عامة ومكة المكرمة خاصة، فإن هناك موقعان بارزا لا يمكن إنكار دورهما في الأدب والثقافة السعودية، الأول قهوة عبدالحي بمكة المكرمة والواقعة بحي المسفلة وتحديدا بالقرب من بركة "ماجن"، والتي امتازت بوقوعها على ربوة تطل على بساتين المسفلة ما تعرف اليوم بحديقة المسفلة، والمسفلة "حي من أحياء مكة المكرمة التاريخية وسميت كذلك بحكم نزول مستواها الجغرافي عن المسجد الحرام، فكل ما نزل عن المسجد الحرام جنوباً يسمونه أهل مكة بالمسفلة، وما ارتفع عنه شمال شرق يسمونه بالمعلاة "، ومن أشهر روادها الاساتذة عبدالعزيز الرفاعي ـ عبدالله عريف - محمد حسين زيدان- عبدالرزاق بليلة – صالح محمد جمال ـ أحمد محمد جمال ـ. 

والثاني مكتبة الثقافة والتي أسسها صالح محمد جمال ورفاقه عام 1364هـ ـ يرحمهم الله ـ، وتعد من ابرز المكتبات التجارية التي ساهمت مساهمة حقيقية في نهضة الأدب والثقافة في المملكة عامة ومكة المكرمة خاصة ، فمن أسسوها كان من الأدباء والمفكرين الذين وجدوا الحاجة لتأسيس مكتبة تضم كتبا في الدين والأدب وصحف ومجلات لتنمية الفكر وفتح آفاق أوسع لدى الناشئة والشباب للتعرف على ثقافات الشعوب. 

وأورد معالي  ورد في كتاب الأستاذ الدكتور/ عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان ـ يرحمه الله ـ في كتابه ( باب السلام في المسجد الحرام ودور مكتباته في النهضة العلمية والأدبية الحديثة )، قصة تأسيس مكتبة الثقافة وفقا لما ذكره الأستاذ/ صالح جمال ـ يرحمه الله ـ إذ قال بأنه: في جلسة عابرة في أوائل عام 1364هـ كان الصديق محمد حسين أصفهاني في زيارتي بالمنزل الذي يطل على المسعى، ومر من أمامنا الصديق عبد الرزاق بليلة ، ثم الصديق أحمد الملائكة، وصعد إلينا، وجلسنا نتحدث عن حاجة مكة إلى مكتبة توزيع الكتب، والصحف، فقد كنا نتهافت على مجلتي الرسالة، والثقافة التي تصل بكميات قليلة، وأحياناً تكون قد نفدت قبل الحصول عليها، فتطور الحديث إلى سؤال:

لماذا لا نقوم بإنشاء مكتبة أدبية، ثقافية، لتحقيق طموحات الشباب بمكة المكرمة؟ ودار الحديث سجالاً، وتعهد الصديق أحمد ملائكة بأن يمدنا من مصر – حيث كان يقيم بها يومذاك – بالكتب، والصحف، والمجلات.

وقال الصديق عبد الرزاق بليلة: بأنه مستعد لإدارة المكتبة ، وكان لم يتوظف بعد، واستعد الصديق محمد حسين أصفهاني بأن يتولى استلام الطرود من جدة وإرسالها إلينا، وأن يمدنا هو بما عنده من صحف، ومجلات حيث كان عمله بسوق الندى بجدة [خلف مسجد عكاش من الناحية الشرقية].

وتعهدت أنا صالح جمال بإدارة الشركة، وحساباتها، ومراسلاتها، ومساعدة الصديق عبد الرزاق بليلة في إدارة المكتبة.

أما الهدف من تأسيس المكتبة كما قال الأستاذ/ صالح جمال ـ يرحمه الله ـ هو "تزويد الساحة العلمية والأدبية بالكتب الحديثة، والصحف والمجلات، امتد نشاطها إلى الاهتمام بالكتب التراثية خصوصاً الموسمية، لم تكن سعة الدكان لتسمح للمكتبة بالتوسع أكثر من ذلك، وبعد انتقالها إلى القشاشية اتسعت نشاطاتها لتوفير الكتب في شتى أنواع العلوم والفنون، وكان لها موزعون في الطائف أمثال: الشيخ مصطفى رهبيني، وعبد الرزاق كمال، ومكتبة النمنكاني في المدينة المنورة، باب الرحمة ".

تلك كانت البدايات الأولى لمكتبة الثقافة التي حرص الأستاذ/ صالح جمال على استمرارها بعد وفاته، وأوصى أبناؤه بالمحافظة عليها كما جاء في قوله: "أوصى أولادي الحرص على استمرار مكتبة الثقافة في أداء رسالتها الثقافية التي أسستها من أجلها، حتى لو تخلى عنها بعض الشركاء يجرى شراء أسمهمها" 

وعلى مدى ثلاثة عقود ونيف التزم الأبناء بوصية والدهم، غير أن الرياح تسير بما تشتهي السفن، فأمام إيقاعات العصر المتسارعة، ودخول التقنية وغياب القراء غاب الكتاب عن الساحة فلم يعد وجوده كما كان سابقا، مما جعل المكتبة تدخل في أوضاع اقتصادية لا تساعد الأبناء على استمراراها، وجاءت اللحظة التي ألمت أبناء مكة المكرمة عامة ومثقفيها خاصة بالإعلان عن إغلاقها لتنتهي بذلك رحلة مكتبة خدمت الثقافة والأدب والعلم على مدى اثنان وثمانون عاما. 

لكن إن غابت المكتبة من موقعها فإنها لن تغيب من أفئدة من نهلوا منها العلم والأدب، ولن تغيب من صفحات التاريخ ومذكرات الرحالة، ولن تغيب من الوجود فلوحتها التي تنزع اليوم من موقعها، سيتم وضعها غدا على مدخل مكتبة نادي مكة الثقافي الأدبي، لتقول للأجيال القادمة إن من وضعوا الأسس وصبروا وكافحوا ليصنعوا ما نحن فيه اليوم لن ننساهم ومكانتهم في التاريخ محفوظة، وإن عجز النادي عن القيام بهذا العامل ورد جزء مما  قدمه الأستاذ/ صالح جمال ـ يرحمه الله ـ  لخدمة الثقافة في مكة المكرمة، فيمكن أن تخصص المكتبة العامة جناحا فيها وتضع عليه اسم المكتبة. 

وإن لم يفعل الاثنان ذلك فإن مكتبة الثقافة التي أسسها الأستاذ/ صالح محمد جمال ورفاقه ـ يرحمهم الله ـ ستظل محفوظة وتذكر كما ذكرت الثقافة في مكة المكرمة.

نقلا عن صحيفة النهار 16 / 10 / 1446هـ