رحيلُ البــدر في وفاة الشيخ صالح بن هاشم بدر

بالأمسِ القريب بينما كنتُ أحتسي القهوة مع بعض أصدقائي في مجلسي بالهدا في محافظة الطائف، وإذْ بالحياة التي أعرفها تتغيّر .. تتبدّل بسرعة .. وفِي لحظة .. فترة غير واضحة المعالم .. هكذا في نبضةِ قلْب أو غيابِ تلك النبضة، غُصتُ عميقًا في داخلي حتّى وصلتُ القاع، وغرقْت في مُحيطِ الصمتِ المُطْبِق، إنه "ألم الفقْدان".

وهذه الدارُ لا تُبقي على أحد ... ولا يدوم على حالٍ لها شانُ
فجائعُ الدهر أنواعٌ مُنوَّعة ... وللزمان مسرّاتٌ وأحزانُ

وإن فقيدَنا بالأمس يعزّ علينا نعْيُه، وفقْدهُ يَثقُل علينا سمْعُه، قتَل الحزنُ على فراقهِ قلوبَنا، وهيْمن الكمدُ برحيله على نفوسنا، إنه سعادة الشيخ صالح بن هاشم بدر، أحد وجهاءِ ورجال أعمال العاصمة المقدسة، أسكنه الله في عليين، ورزقه شفاعة سيد المرسلين، ورحمه رحمة الأبرار الصالحين.

يعدُّ "الشيخ صالح بدر" أحد رُوّاد الأعمال في المملكة العربية السعودية في صناعة "الحلويات والشكولاته"، فهو من أوائل مؤسسي مصانع "الشكولاته" في المملكة العربية السعودية، ولقد اشتهرت علامة "شكولاين" في العديد من دول العالم حتى وصلت فروعها إلى "هونغ كونغ" في الصين، وهي صناعة وطنيّة "مكيّة"، يحقّ للجميع أن يفخرَ بها وبجودتِها وعالميّتها، وقد كان يزور المصنع في مكة المكرمة بشكل "يوميّ" ويشرفُ على جودة وسير العمل بكل إخلاصٍ وشغف.
ولقد كنتُ أتعاهد زيارته في مكتبه في المصنع حينًا بعد حين، فكنت أراه يكثر من أعمال البرّ، لم يكن يردّ محتاجًا يطلبه، ولم يكن يطرد سائلاً يسأله، أعماله الخيريّة لا يحصيها العدّ، وإنفاقه في أوجه الخير لا يحدها الحدّ.

ولقد كان الشيخ "صالح بدر" يراقب الله في أعماله وتجاراته، يحرص أن يغذي نفسه بالمال الحلال الذي لا تشوبه شائبة ولا تلوثه شبهة، فعندما أنشأ أول مركز متقدم "للملاهي" في مكة المكرمة، أخذ موعدًا مع الرئاسة العامة للإفتاء في المملكة العربية السعودية ليشرح لهم طبيعة تشغيل المشروع، فلم يقدم عليه إلا بعد أن أخذ فتوى بجواز العمل في ذلك، فأقدم عليه وافتتحه مع شقيقه الشيخ أحمد بن هاشم بدر -حفظه الله-، ليكون مشروعًا ترفيهيّا ضخمًا يخدم سكان العاصمة المقدسة.

لقد جمعتنِي بالشيخ "صالح بدر" صداقة طويلة الأمد، شاهدت خلالها أسمى معاني الرجولة والشهامة والإخاء، والصدق والمحبة والوفاء، والبذل والكرم والعطاء، وصدق الوعد وحفظ العهد والصفاء ..   
سأظل أذكره إذا جن الدُجى ... أو أشرقت شمس على الأزمان
سأظل أذكره بحجم محبتي ... فمحبتي فيض من الوجدان

لقد عاش "صالح بدر" رطب اللسان عذب الجنان، نقيّ وفيّ طاهر، كريم صفيٌّ جابر للخواطر، يقرأ القرآن ويحب تفسيره، كان دومًا يسألني عن مدلولات الآيات، وما فيها من عبر وأحكام وإشارات، يخشع ويبكي إذا تُليت علي كلمات الله، وينكسر ذلاّ وخضوعًا لخالقه ومولاه، يلهج لسانه دائمًا بالذكر، وفي مجلسه تفوح رائحة العطر، لا يرتضي إلا العدل والحقّ، وتطيب نفسه بالخير للخلق، ويكره الكذب والنفاق والتملّق، عرفه المجتمع ملتزمًا بالعادات الحميدة والصفات الرشيدة، حسُن السيرة ونقيّ السريرة.

وعن علاقته بشقيقه الأكبر الشيخ "أحمد بن هاشم بدر"، فهي علاقة أخوة "استثنائية" لم أشهد مثلها في حياتي، حبٌّ واحترام، ومودّة ووِئام، كلاهما يُقدّم الآخر، ولا يكسر أحدهما رأيًا للآخر، دعائي وخالص عزائي للشيخ "أحمد بدر" على فقد أخيه وصديقه وخليله، أسأل الله كما جمعهم في الدنيا أن يجمعهم في الجنّة على سررٍ متقابلين.

هذا الصديق الذي كانت مودتّه ... كالكوثر العذب لا يغتالها الكدرُ
صافي السريرة محض الود لا ملق ... في لفظه لا ولا في قلبه وضَرُ
مضى إلى الله حيّ الله طلعته ... بالمكرمات وحيّا تربَهُ المطَرُ

أبا خالد .. لقد استدبرتَ دار الفناء واستقبلت دار البقاء حيث تنتظرك جميع أعمالك الصالحة، وأياديك النقية الناصعة، فهنيئا لك ما قدّمت، والبشرى لك بما قدْ أسْلفْت، وعلى مثلك يا -أبا خالد- فليحزن الرجال، عزائنا أنك تركت أبناءً كرامًا ورثوا منك جميل الصفات والخِلال أحسن الله عزائهم فيك، اللهم اجعل عبدك الصالح "صالح بدر" في جنة عرضها السموات والأرض.
( كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ هَنِيٓـًٔۢا بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِى ٱلْأَيَّامِ ٱلْخَالِيَةِ ).

انتهى
د. مجدي باسلوم