أمكنة عاصم حمدان

كَتَبَ عاصم حمدان كثيرًا عن الأمكنة والنَّاس، ونستطيع أنْ نَسْتَلَّ مِنْ مؤلَّفاته صُوَرًا شَتَّى لأمكنةٍ كانَتْ، وناسٍ بانُوا، وأكثر مِنْ ذلك، نستطيع أن نَعْرِف طرائف مِنَ موروثٍ شعبيٍّ استكنَّ في هذه الحارَة أوْ تلك، ورُبَّما اتَّخَذْنا، مِمَّا يُنْشِئُهُ، ما يُشْبِه الوثيقة نستبين فيها ملامحَ أمكنةٍ كانَتْ ثُمَّ بانَتْ.. بِوُسْعِنا أنْ نفعل ذلك وأكثر مِنْ ذلك، ولا رَيْبَ أنَّ مؤلَّفاته تلك الَّتي أَخْلَصَها للمحلَّات المُطِيفة بالمسجد النَّبويّ الشَّريف، أوْ مُؤَلَّفه لِمَحَلَّة الشَّامِيَّة الموصولة بالحرم المكِّيِّ الشَّريف = تَجْلُو لنا ما نُريد.

غير أنَّنا نَظْلِم تلك المؤلَّفات إنْ قَصَرْناها على هذه النَّواحي، ذلك أنَّ عاصمًا ما أراد أن يُحْيِيَ أَثَرًا، فللآثار أهلوها، ولا أن يُدَوِّنَ مأثورًا شعبيًّا، فغيره أَقْدَرُ على ذلك، فغايتُهُ الَّتي قَصَدَ إليها أن يكتب عنْ نَفْسٍ يَطْويها بين ضُلُوعه، وما كان بِطَوْقه أن يستخلصها مِنْ أمكنةٍ دَرَجَ فيها ونَشَأَ، وناسٍ اتَّصَلَ بهم، وكان عاصم حمدان – الإنسان الَّذي يَحْيا بيننا – وعاصمٌ المؤلِّف – الَّذي يَضَع الكُتُب ويُنْشِئ الفُصُول والمقالات = كأنَّما يعيش بيننا بِجَسَدِهِ، ويُكْثِر التَّلَفُّتَ إلى الماضي، ويُدِيم البكاء عليه، ولعلَّ في ذلك ما يُفَسِّر عُنوانات كُتُبه الَّتي أَخْلَصَها لتلك الأمكنة، ويَجْلُو لنا تَعَلُّقَ عاصمٍ – الفتى والشَّابّ والكَهْل والشَّيْخ – بأشياخٍ وأساتذةٍ وأصحابٍ عاشَ في أكنافهم، ثُمَّ ذهبوا، واحدًا إثْرَ واحدٍ، وغالهم الموت، وخَلَّفُوه وحيدًا
هَذَا جَزَاءُ امْرِئٍ أَقَرَانُهُ دَرَجُوا
مِنْ قَبْلِهِ، فَتَمَنَّى فُسْحَةَ الأَجَلِ

كأنَّما أَحَسَّ عاصمٌ لَمَّا نَبَا به المكان عنْ تلك المَعاهِد الَّتي نَشَأَ فيها ودَرَجَ = أنَّه تَنَازَعَتْه شخصيَّتان: هذه الشَّخصيَّة الَّتي تعيش بين النَّاس وتأكل الطَّعام وتمشي في الأسواق، وتلك الشَّخصيَّة الَّتي تذهب في الماضي، بعيدًا، إلى أمكنةٍ دَرَسَتْ، وناسٍ مَضَتْ، وتَنَازَعَتْه، كذلك، ضمائر اللُّغة؛ ضمير المتكلِّم، يعيش به بيننا، وضمير الغائب، وكان يُؤْثِره ويصطفيه، كُلَّما أراد النَّجاة مِنْ زمنٍ حاضرٍ ثقيلٍ على نَفْسه ورُوحه، وكان له الخِيَرَة، في أن يَلتزم الضَّمير "هُوَ" في كُلِّ ما كَتَبَ، أوْ أن يُناجي الأبُ عاصمٌ ابنَهُ أحمدَ، لِيُحَدِّثَه عن عاصمٍ الفتى، فساغ أن تتكرَّر في سِيرته هُتَاف مِنْ باب السَّلام عِبَارة "يا بُنَيَّ"، وعِبَارة "يا أحمد".

ولنا أنْ نَرَى في هذا الضَّمير أثارةً مِنْ فَنٍّ، لولا أنَّ عاصمًا إنَّما أراد أن يَصِلَ ابنه الَّذي قَدِمَ إلى الدُّنيا، في خَرِيف العُمْر، بذلك الماضي البعيد، وليس مِنْ رجاءٍ للأبِ إلَّا أنْ تَتَّسِع له الحياة فيروي على مَسْمَع الابْن سِيرة الأبِ والجَدّ

لا أَعْلَم يا بُنَيَّ إذا ما كُنْتُ قادرًا – يَوْمًا – على الإمساك بيديك – يَوْمًا مَّا – كما فَعَلَ جَدُّكَ مَعِي – في طُفُولتي وشبابي، وسِرْتُ بِكَ حَوْلَ رُسُومِ المواضع الَّتي عَبَقَتْ أرجاؤها بذلك التَّاريخ المُشْرِق الَّذي كانَتْ بدايته عندما اختارَ الخالق – عَزَّ وَجَلَّ – تلك الأرضَ المُباركةَ لِتَكُونَ مُهاجَرًا أوْ مَوْئِلًا لحبيبه وصفوة خَلْقِهِ – سيِّدنا محمَّدٍ – عليه صلوات الله وسلامه – ثُمَّ ضَمَّتْه أحشاؤها مُتَبَاهِيَةً – ويَحِقُّ لها أنْ تَتَبَاهَى، واحتضَنَتْ جَسَدَهُ الشَّريفَ ذَرَّاتُ تُرْبها الزَّكِيِّ مُتَفَاخِرةً، ويَحِقُّ لها أنْ تُفَاخِر (ص 35)

تُسْرِع – يا أحمد – سيِّدة الدَّار إلى ذلك المكان، فتُمْسِك بـ"الدَّلَّة" وتُزِيل عنها ما لَحِقَ بها مِنْ ذَرَّات الرَّماد، ثُمَّ تَضَعُها – بِشُعُور المحبَّة والرِّضا – مَعَ شيْءٍ مِنَ التَّمْر أمامَ والد أبنائها (ص 32)

كان التَّاريخ يَتَسَرَّب إلى حديث عاصمٍ، دُونَ أن يَتَكَلَّفَ له البَحْثَ والتَّنقيب، ويكفيه أن يستكين لذاكرته، فَيُبْعَثَ ماضٍ، وتَنْمُوَ أمكنةٌ، ويحيا بَشَرٌ مِنْ لَحْمٍ ودَمٍ، فإذا بالأبِ يروي للابْن تاريخًا عاشه جَدُّه الأوَّل وجَدُّه الثَّاني، وإذا بالتَّاريخ يُطاطِئُ، قليلًا، مِنْ عُمُومه، ويُصْبِحُ شَأْنًا مِنْ تلك الشُّؤون الخاصَّة الَّتي عاشها أفرادٌ وأُسَرٌ في زمنٍ استخفَى عنْ أَعْيُن المؤرِّخين، فاستنقذَتْه ذاكرة عاصمٍ، فَرَوَاهُ عنْ أبيه، عنْ جَدِّه

ولقدْ سَمِعْتُ جَدَّكَ الَّذي أَدْرَكَ – سَفَرْ بَرْلَكْ – في حِقْبة – فَخْرِي باشا – يَرْوِي – رَحِمَهُ الله -: يُرْسِلُني والدي مِنْ "السَّيْح" إلى باب "العنبريَّة"، حيث كانَتْ تقوم "التَّكِيَّة"، أدفع للجُنْدِيِّ "مَجِيدِيًّا" فَيُعْطِيني "قُرْصَ الخُبْز"، ويُوَزِّعه الجَدُّ الأكبرُ على أبنائه السِّتَّة ووالدتهم، أمَّا بقيَّة الوجبات فَحَبَّاتٌ مِنَ التَّمْر، مَعَ كأسٍ مِنَ الماء، ثُمَّ كان الخُرُوجُ إلى مكَّة، بَدَلًا مِنَ "التَّهجير" إلى الشَّام، وكان الفضل في هذا – بَعْدَ الله – لوالدة الشَّيْخ أحمد نور – رحمه الله – (...) ولقدْ كانَتْ هذه السَّيِّدة تُجِيد اللُّغة التُّركيَّة فخاطَبَتْ فخري باشا، وشَرَحَتْ له ظُرُوف العائلة، فَسَمَحَ لها بالسَّفَر إلى "مكَّة"، وهناك نزلوا في "شِعْب عامر". صنيعُ أَهْل الشِّعْب خِلَال هذه المأساة يُماثل صنيعَ أَهْل حَلَب، كلاهما أكرم جِيران المصطفَى – صلَّى الله عليه وسلَّم – وقدْ رَوَى لي جَدُّكَ – يا بُنَيَّ – كيف كان رَجُلٌ مِنْ آل ظافر... يركب الفَرَسَ حتَّى إذا ما رآني – لمْ يَزَلْ جَدُّكَ – عندئذٍ – في سِنِّ الطُّفُولة = نَزَلَ مِنْ فَوْقِ الدَّابَّة وحَمَلَني على ظَهْرها – تعبيرًا عن المَحَبَّة للقادمين مِنَ المدينة المحبوبة (ص 32-33)

كأنَّما أراد عاصم حمدان أن يَصِل كِتابَهُ هُتاف مِنْ باب السَّلام برسالة الإمام أبي حامد الغزاليّ – رحمه الله – أيُّها الوَلَد، فكلا الأبوين اتَّجَه إلى ابْنه، وكلاهما نَصَحَ لهما، وبينما اتَّخَذَ الغزاليُّ الحِكْمَةَ والموعظةَ سبيله إلى نُصْح ابْنه، اصطنعَ عاصِمٌ سِيرتَهُ ذريعةً في حديثه إلى ولده.

وناسُ عاصم حمدان ليسوا "جارحين كالصُّقُور"، إنَّما هُمْ طَيِّبُون، يَذْرَعُون الأزقَّة في طُمانينةٍ ودَعَةٍ، يَلُفُّهُمُ الوَقَارُ، وتَغْشَاهُمُ السَّكينةُ، رُؤوسُهُمْ مَحْنِيَّةٌ، حياءً وتأدُّبًا مَعَ رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم - تَقُودُهُمْ خُطُوَاتُهُمْ إلى أمكنةٍ لا تُشْبِه سِوَاها، وحيثما سار عاصمٌ – أوْ حيثما سار الفَتَى – لا ترى عيناه إلَّا رَجُلًا يَقْصِد "باب السَّلام"، أوْ طَلَبَةً مِنْ حَفَظة كِتاب الله، يرتدون العمائم ويسيرون في أدب، وحيثما خَطَا فَثَمَّ تاريخٌ وأمكنةٌ تُخَايِلُهُ أَنَّى اتَّجَه: القُبَّة الخضراء، وجَنَّة البقيع، ومسجد سَيِّدنا بلال، ومسجد الغَمَامة، والسَّيْح، وسَيْل أبي جِيدة، وحارَة الأغوات، وحيثما سار في تلك الأزقَّة والسَّاحات والدُّرُوب كان الفتى عاصمٌ يقرأ فِعْلَ المكان في النَّاس، فإذا هُمْ – مهما اختلفَتِ السِّحَنُ، ومهما تَبَايَنَتِ النَّواحي الَّتي يرتفعون إليها – صَنَعَتْهُمُ المدينة النَّبويَّة المنوَّرة على عَيْنِها

كان الفتى يَلْحَظ في وُجُوه سُكَّان هذا الحَيِّ مِنَ المدينة الطَّاهرة كثيرًا مِنْ سِمَات البراءة والنَّقَاء. على الرُّغْم مِنْ تَبَايُن المناطق الَّتي قَدِمَ مِنْها هؤلاء القَوْم، إلَّا أنَّ تُرْبة المدينة المُبارَكة وهواءَها، وتلك النَّفَحَات الَّتي خَصَّهُمْ بها سَيِّد البَشَر – عليه صلوات الله وسلامه – بالدُّعاء لهم بالبَرَكة والدَّعوة إلى مَحَبَّتهم = كُلُّ ذلك وغَيْرُهُ صَهَرَ القومَ وجَعَلَ مِنْهُمْ وحدةً مترابطة وقوامًا متماسكًا (رحلة الشَّوْق في دُرُوب العنبريَّة، ص 19)

نقرأ في سِيرة عاصم حمدان – تلك الَّتي أَظْهَرَنا عليها في غير كِتاب – المُقَدَّسَ والدُّنيويَّ، مَعًا، وبينما نَمُرَّ فيها بالعُلَماء، والمُتَصَوِّفة، وحَفَظَة القرآن الكريم وقُرَّائه، وبينما نَقِف على المساجد، والأضرحة، والكتاتيب، والمدارس، وحَصَيَات الدُّرُوس والإجازات = إذا بنا نُصْغِي أسماعنا إلى أحاديث "يابات الحارَة"، وصيحات "أولاد البَلَد" وفُتُوَّاتها، وتأخذنا عيناه إلى ألوانٍ مِنَ الفُنُون اتَّصَلَ بها، بين "الزِّير"، و"المزمار"، و"الرَّفيحة"، ومَرَّةً يَثُور وجدانه لصوت الأذان، وأخرى يَطْرَب لِـ"دانةٍ"، أوْ "كَسْرَةٍ". لكنَّ أمكنة عاصم، مهما اختلفَ أهلوها، تَعْنُو لِشَرْط المدينة النَّبويَّة المنوَّرة، وليس لها مِنْ شَرْطٍ إلَّا تَأَتَلِفُ قُلُوبُ النَّاس وأرواحهم في حَضْرَتها "لقدْ كان الحُبُّ يَجْمَع النَّاسَ، على مختلِف مَشَاربهم، في بلد الحُبِّ والأمان، أَتُرَى قدْ وارَيْنا الثَّرَى ذلك التَّسامُحَ والحُبَّ والودادَ، هُناك في الرَّبوة؟؟ أَمْ تُرَاهُ تَبَخَّرَ في السَّماء وأضحَى ذَرَّاتٍ تائهة؟ " (رحلة الشَّوْق في دُرُوب العنبريَّة، ص 20)

نقلا عن مجلة اليمامة