حفظ النفس مقدم على أداء المناسك

المتخصص في العلوم الشرعية و قواعدها يعرف أن من أشهر القواعد المناسبة للحالة الراهنة ، وأقصد جائحة كورونا حديث نبوي صريح نصه : «لا ضرر ولا ضرار»، الذي يعد من أهم القواعد الفقهية ، هي و تفريعاتها، مثل تلك التي ذكرها الإمام الشافعي في الجزء الـ4 من كتاب (الأم): «يجوز في الضرورة ما لا يجوز في غيرها »، و« قد يباح في الضرورات ما لا يباح في غير الضرورات»؛ وحول ذلك أكتب مقالي الاستباقي هذا، لا بغرض تقرير المصير..

ربما لا يعرف الكثيرون أن شعيرة الحج توقفت تاريخيا حوالي 40 مرة، بين تعطل كلي وجزئي، والسبب يعود لجملة من الأحداث والكوارث التي لازمت المواسم آنذاك، وفي مقدمتها الأمراض والأوبئة، والاضطرابات السياسية، وغياب الأمن، وفساد الطرق بسبب قطاعها، والاضطراب الاقتصادي والغلاء، والقتل والنهب والسفك والترويع، وكان الجواب المتكرر تجويز تعطيل الفريضة، وعدم إتمامها بهدف حفظ النفس الآدمية .

بالبحث وجدت أن الإمام ابن كثير  ذكر المرة الأولى التي حصل فيها التوقف، في المجلد 11 من كتاب ( البداية و النهاية  ) و هي سنة 251 هجرية ، قائلا: «فلما كان يوم عرفة لم يمكن الناس من الوقوف نهارا  ولا ليلا »، كما ذكر الإمام الذهبي المرة الثانية التي حصل فيها التوقف، في المجلد 23 من كتابه (تاريخ الإسلام و وفيات المشاهير و الأعلام ) و هي سنة 316 ،بقوله : «لم يحج أحد في هذه السنة خوفا من القرامطة»، مضيفا أنه في سنة 317 حدث «دخول القرمطي مكة واقتلاع الحجر الأسود»، يوم التروية ، ويذكر المؤرخون «تعطل الحج كما يقال 10 أعوام، حيث لم يقف أحد بعرفة، ولم تؤد المناسك»، وحصل التوقف التالي سنة 357 ،كما وثقه ابن كثير في الجزء 11 من كتاب (البداية) بقوله: « وفيها.. عرض للناس داء (الماشري) فمات به خلق كثير، و فيها : مات أكثر جمال الحجيج في الطريق من العطش، ولم يصل  منهم إلى مكة إلا القليل، بل مات أكثر من وصل منهم  بعد الحج»، ثم حصل توقف آخر في سنوات 390 ،و419 ،و421 ،و430 ،و492 ،و563 ،و640 لمدة 10 سنوات، و654 لمدة 4 سنوات، و1213 ،و1246 ،ثم 1258 ،و1313 ،وحصلت توقفات متكررة بسبب الكوليرا آخرها سنة 1319 ،وبالجدري آخرها سنة 1372، و بينهما التوقف المشهور سنة 1337 ،المعروفة بسنة الرحمة.

بالعودة للمقدمة، يظهر لطالب العلم، فضلا عن العالم المتبصر، أن تعليق الحج بشكل (جزئي) ممكن، بوضع احترازات أشد وأقوى وأدق من تلك الموضوعة سنة 1430 ،عندما تم منع «كبار السن ممن تزيد أعمارهم عن 65 عاما، والأطفال أقل من 12 عاما، و المصابين بأمراض مزمنة كأمراض السكر والقلب والكبد والكلى والضغط والسمنة المفرطة و غيرها »؛ بل إن تعليق أداء نسك الحج (كليا) مقبول، بل مطلوب جدا حاليا ، بسبب مخاطر (التقارب الاجتماعي)، و تأثيره السلبي، وذلك درءاً ودفعًا للمفسدة، ً و تقديما وجلبًا للمصلحة والمنفعة، والشرط غلبة ظن الأطباء المختصين بإصابة الحجاج بالوباء، وأن المنع مؤقت بمقدار ما يدرأ به  الضرر، وأن يقر ويقرر ذلك (أمير الحج)، كما يسمى في الفقه الإسلامي، وهو خادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان بن عبدالعزيز، أبقاه الله و أيده ؛ فالاستطاعة الواجبة لأداء الحج لا تتحقق مع الخوف من المرض، وبدون أمان منه ، وفي حال عدم تعليقه مثلا، يمكن لكل دولة، ظهر فيها المرض، أو لم يظهر، أن تمنع رعاياها من الحج؛ فالإسلام يوجب الأخذ بالأدوية، و يوجب كذلك الوقاية من الأدواء، مخافة على الأنفس من أن تقع في التهلكة.

منقول من صحيفة الوطن