الخطط المكية
من نوادر مجلة «المنهل» -وما أكثر نوادرها!- أربع مقالات نفيسة أنشأها الشيخ عبدالوهاب الدهلوي (1315-1381هـ)، ونشرت في عام 1366هـ = 1947م، عنوانها «تعريف بالكتب المؤلفة عن الحرمين والطائف وجدة»، وأدرك محرر «المنهل» قيمة تلك المقالات فوصفها بأنها «بحث فريد في بابه»! والبحث، لا شك فريد، بذل فيه الدهلوي -رحمه الله- جهدا عظيما، ولا غاية له إلا أن يعرِّف بتلك الكتب التي ألّفت باللغات العربية والفارسية والتركية والأردية، وهي نافعة مفيدة، مهما عددناها، اليوم، قديمة، ويكفي أنها دلت على عناية نفر من أهل هذه البلاد بصناعة التأليف والنشر، وأنها وقفتنا على تقاليد ترتفع في الزمان إلى قرون خلت.
استجلب نظري في حرف الخاء كتاب «الخطط المكية» للمؤرخ المكي أحمد بن محمد الحضراوي (ت 1326هـ). قال الدهلوي عنه: «وهي -أي الخطط- على طريقة الخطط للمقريزي، فصل فيها جغرافية مكة المكرمة في مجلدين كبيرين، كانت موجودة لدى أسرته بمكة ثم فرطوا فيها واشتراها من لا أعرفه»! (رمضان 1366هـ = يوليو 1947م، ص 401). ولا أستغرب «تحسر» الشيخ عبدالوهاب الدهلوي على هذا الكتاب، وحسبه أنه في مجلدين كبيرين، وأنه فصل فيه جغرافية مكة المكرمة! ولم يستطع الشيخ -رحمه الله- أن يواري سخطه على أسرة المؤلف، لما فرطت في كتاب، هذا شأنه، وباعته إلى من لا يعرفه!
لما قرأت كتاب «مدينتا الجزيرة العربية المقدستان» للرحّالة الإنجليزي إلدون رتر، وترجمة عالم الآثار السعودي عبدالله نصيف = سرعان ما تذكرت كتاب الحضراوي (المأسوف عليه!). زار رتر مكة المكرمة عام 1343هـ، وأطنب في الحديث عن حارات البلد الحرام، وكأنه إنما يصنف «خططا» جديدة، استوفى فيها جل ما اتصل بالمدينة القديمة -آنئذٍ- وأظن أنه لن ينتهي أسفي على ذينك «المجلدين الكبيرين» اللذين فقدنا بهما، لما فرط فيهما، خيرا كثيرا، حتى إذا ظفرت برسالة بديعة في وصف المدينة المنورة، للأفندي علي بن موسى (كان حيا عام 1320هـ)، بناها، بتمامها، على وصف خططها عام 1303هـ = 1885م، وعُني الشيخ حمد الجاسر بنشرها في كتابه «رسائل في تاريخ المدينة»، فأُفضل المؤلف الذي لا نعرف عنه شيئا ذا بال، على العلم والتاريخ، في رسالة صغيرة تعداد أوراقها 29 ورقة (59 صفحة)، فما بالك بـ«خطط الحضراوي» تلك التي قال عنها الشيخ عبدالوهاب الدهلوي: إنها تقع في مجلدين كبيرين!
والتأسف على «خطط» الحضراوي قديم، فهذا من رمز لنفسه باسم «متألم» [هو محمد سعيد المقصود] يكتب في صحيفة «صوت الحجاز» مقالا يرقى تاريخه إلى عام 1353هـ = 1933م = يزيدنا أسفا وحسرة. يقول:
وقد روى لي ثقة فاضل بأن للمرحوم الشيخ أمين بيت المال كتابا في تخطيط مكة، كما أني قرأت في ترجمة الشيخ أحمد الحضراوي... أن له كتابا اسمه الخطط المكية، ولكن لم يسعفني الحظ فأطلع عليهما، ولم أجد من يذكر لي خبرهما، وأرجو من كل مطلع وصل إلى علمه شيء عن خبرهما أن يرشدني إلى ذلك.
ومكة المكرمة مدينة ضاربة في القدم، وفيها ما في المدن القديمة من مرافق، وأسواق، وأزقة، وأسبلة، وتمتاز أسماء نواحيها ومنشآتها بما يشبه أمصارا أخرى، فالسوق يطلق عليه «سويقة»، وحلقة اللحوم والخضروات تدعى «منشية»، وحوانيتها ودكاكينها هي ما عليه مثيلاتها في القاهرة، ودمشق، والقيروان، وفاس، ولعل الخيال يسرح بنا، قليلا، فنتصور «خطط الحضراوي»، و«خطط أمين بيت المال»، ما يكونان؟ وعسانا، لو استنقذتهما الأيام، أن يجلوا لنا «عبقرية المكان»، ولعلهما سيغنيانا عما سواهما، فنعرف المساجد، والزوايا، والقهوات، والمدارس، وخزائن الكتب، ودواوين الدولة، وأعمال الحكومة، ولكن.. إن ليتًا وإن لوًّا عناء!
نقلا عن صحيفة الوطن