“حُمار أعرَج، ولا تُوقَفْ الطاحونة!”

هو مَثلٌ مكــّاويٌ قديم و لو أني سمعته بـُعيدَ إتمام مرحلة الدكتوراه في امريكا و بدءِ حياتي العملية بوزارة التعليم (وزارة المعارف سابقاَ).. في مدينة الرياض، في ١٩٧٣م.

و كانت مناسبة سَماعي بهذا المثل أثناء حديثي مع المرحوم الأستاذ جميل ابوسليمان (والد الأستاذة عبير أبوسليمان، خبيرة السياحة في جدة؛ و أيضاَ عم الإعلامية أ. منى أبوسليمان).

فلقد كان لي حديث مع الأستاذ جميل أثناء التهيئة لأن اتولى منصبه بالوزارة (الإدارة العامة لمركز البحوث و الإحصاء و التوثيق التربوي).. و كان ذلك في ربيع ١٩٧٤م، و قبيل مغادرة سعادته المملكة لتولي منصب الملحق التعليمي/الثقافي في جمهورية موريتانيا.

فكنتِ استشيره في كيفية التعامل مع بعض الموظفين، و خاصة مع موظـّف لاحظتُ انه يبدأ دوام عمله بالمركز.. ثم ما يلبث ان يختفي؛ فذكر لي أ.جميل المثل المكـّاوي الذي يقول: ‘حمار اعرج و لا تــُوقـــَفْ (تتوَقفُ) الطاحونة!’

و المقصود: حاول الاستفادة من كافة الموارد المتوافرة و بكل الطرق و حسب المتاح.. و خاصة في حال غياب البديل؛ و حتى ‘ليُمشّي الواحد حالــُه! و لا يتعطــّل’!

ولقد أحدث هذا المثل المكــّاوي عِندي (فلاش-باك) فذكــّرني بما كنتُ قد لاحظته ذات يوم  أثناء مرحلة طفولتي الَمبكرة، حين دخلتُ طاحونة العم حسن قــِرِملي التي كانت تقع عند سفح جبل عمر بحارة الشـُّبيكة مما يلي قبور الشبيكة االمحاذية لحارة الباب. و كان أمامَها موقع حراج الغنم و بيت شيخهِ العم محمد علي عُريف؛ ثم حراج الفحم و الحطـَب و مِركاز شيخه العم عمر عـُريف (و هما ابناء عمومة مع الأستاذ عبدالله عُريف، الرئيس السابق الأشهر لبلدية مكة (أمانة العاصمة). كما و كان بيت المــِيرَة في مواجهة موقع تلك الطاحونة.

و أذكر أثناء وجودي داخل مبنى تلك الطاحونة أنه كان ملاصقاَ لفرن العم خليل أجاوي، و أنه يتعامل بطبيعة الحال مع طاحونة القِرِملي المحاذية لفرنه)،

كما و اذكر مشاهدة عملية عجن الدقيق في حوض كبير يشبه حوض ‘البانيو` المستعمل عندنا حالياَ للاستحمام! كما أذكر عاملاَ كان يقوم يعجن الدقيق بقدميه وقوفاَ في أنحاء ذلك الحوض! ..و لم يكن في ذاك الفرن حِمارٌ و لا أتان!

(و لتخفيف غرابة وصف هكذا أداء.. – في عملية العجن- فلنا أن نتذكر كيف كان يُعصرُ العنب في أوربا القديمة. فلقد كان العصر عندهم يتم بنفس الطريقة: فيدخل الشباب و الشابات داخلَ إنادٍ كبير بشبه البانيو.. و يقوم الشبان بهرس العنب؛ فكانت تلك معصرة زمانهم هناك؛ و بعد أن يتم العرس و العصر يـَجري فرز قشور العنب و بذوره، ثم يـُصفّى و يُعالج، و يقدّم فيما بعد إمّا خَلاّ لسـَلَطات و طبخات ربـّات البيوت، أو خمراَ سائغاَ ‘في صحة’ المتنادمين.

لكن، بعد فترة ليست طويلة، قام الفرّان العم حامد بدر باستيراد آلاتٍ و أدواتٍ للخبز الآلي لتقوم بخلط و عجن و تجزّيء العجين تجهيزاَ لخبزه في ‘طوابين’ الفرن.. (الذي بالطبع صار يعمل بالكهرباء!) فكان (مخبزُ بـــَدُر) المخبزَ الآلي الأول من نوعه في مكة، و بالتالي في المملكة (و لعل ذلك كان في أوائل عَقد الخمسينات الميلادية)!

أما في طاحونة القِرِملي فلاحظتُ (ماكينة) الطحن في صدر المكان، بينما كان يجرُّ سيورها حِمارٌ أعرجٌ و معصوب العينين!

و كطفلٍ، كانت مشاهدتي ذاك المنظر قد جمعت بين تعجّبي الكبير من مشاهدة دور الحمار في تسيير الطاحونة بـــِرُمـّتها.. و أيضاَ في وجود توصيلات يُمكنُ معها شحن البطاربات (كانت مقاسها عموماَ اكبر من بطاريات السيارات حالياََ)؛ و كان دخولي تلك الطاحونة لشحن بطارية مذياع/راديو بيتنا الكائن في متن جبل عمر..) و كنتُ اتعجب كيف يمكن أن تتحول بطارية منتهية/ميتة إلى طاقة حية، و ذلك بعد ‘شحنها’.. أثناء شبكها بسلك مع مولّلد/(موطور)!

و لا زِلتُ أذكرُ حـُزني لذلك الحِمار الذي كان يمضي في عمله في تلك الطاحونة بشكلٍ دائبٍ و صبور.. و بينما كان معصوبَ العينين.. أعرَجا!

نقلا عن صحيفة انحاء