نِعمَ الفَقيدُ الوافي .. أبو صَـافي

مضى الشقيقُ لروحِي فهي موحشةٌ...
وبان شطر فؤادِي فهو مُنفطرُ

قد كنتُ أنتظِر البُشرى برؤيتهِ...
فجاءني غير ما قدْ كنتُ أنتظرُ

لكنّه الأجل المحتُوم والوقت المعلُوم، إنه الموت! أعظم الكُرُبات وجالبُ اللوعات؛ فقدُ الأحبةِ شديدُ الكربة، إنها مشاعرُ الحنين ولحظاتُ الأنين، اللهم أحسن وِفادتُه إليك، ولا تخزِه ساعةَ العرضِ عليك.  

نَعم أيها السّادة .. لقد مَضى إلى لِقاء ربّهِ الشيخ حامِد رمضاني وقد كان بمثابةِ الأبِ والأخِ والصديق، بعد أن جمعَتْنا صداقَة امتدّت لأكثر من خمسٍ وأربعين عامًا كان فيها نِعم الرفيق، اللهم كمَا جعلْت عند كعْبتك الشريفة مجلِسنا ومُلتقانا، فجَدّد في الجنّة عند رؤيةِ وجْهك الكريمِ جَمعنا ولُقْيانا.

الإخوة القراء .. تمْضي سُويعات الزمن في حياتِنا سريعةً خاطفةً، نغرقُ في زحامِ الواقع الحافل بانشغالاتِنا المُتشابكة، لكن الأوفياء من الرجال يبقُون على الوِصال والودّ، ويحفظون المودة والعَهد، لا تسمعُ منهمْ هذه الأعذَار، ولا يخْتبئُون خلفَ تِلكَ الأسْتار، إذ أنّ المحبّ الصادق يبادر بالوصال ولا ينتظر الاتصال، ويبكر بالسؤالِ عنْك ليشعرَك دومًا بصدقِ محبّته، وإخلاصِه في صداقِتِه، يفرحُ لفرحِك ويحزنُ لحزنِك، يُشاطرك الهمُوم ويُناصِفك الكلُوم، ولا يسيء بك الظنون، هكذا كانت علاقتي بالشيخ حامد رمضاني، علاقةٌ مبناها الصدقُ والوفَاء، وتُرجمانها المحبّة والإخَاء.

كنتُ أجلسُ في المسجدِ الحرام من المغرب إلى العشاء مع بعض الأصدقاء الذين انتقل جلّهم إلى رحمة الله، وكان -لأبي صافي- مكانٌ يجلس فيه بمفرده في الحرم، فدعوته للجلوس معنا فلبّى دعوتي بكل فرحٍ وتقدير، ثم أصبحْنا نجلس معًا في الحرم عند باب الندوة -باب بين باب الفتح وباب العمرة- بين المغرب والعشاء لأكثر من عشْرين عامًا،  عرفْتُه كثير المناجاة لخالقِه ومولاه، يكثرُ من قراءةِ كتَاب الله، يدفعُ للفقراءِ الصدقات، ويبذلُ للأيتامِ النّفقات.  

ولقد ضرَب لي -أبا صافي- أروعَ صور التقدير والوفاءِ بمحبّته لأبنائي ورعايته لهم، فقد كان يُدنِيهم إلى جواره في الحرم، وعندما ارتحلوا خارج البلاد لطلب العلم كان دومًا يبادر بالاتصالِ عليهم والتفقدِ عن أحوالِهم، وكان يكثرُ من الدّعَاء لهم ولأبنائهم، ويقول لي: "يامجدي .. أنا أحبّ أولادك كثيرًا"، زرناه سويةً قبيْل وفاته بأيامٍ معدودات بعد أن انقطع عن الصلاة في الحرمِ بسبب مرضه، فكان يكثر من البكاء شوقًا إلى المسجدِ الحرام.

 لقد كان الشيخ حامد رمضاني أمينًا في تعَامُلاته وصادقًا في تِجاراته، يدُه للخير ممدودة ومع ربه موصولَة، فقد كان يكثرُ من بِناء المسَاجد، في يومٍ من الأيام أبديتُ له رغبة والدتي ببناء جامع، فأسرعَ في تلبيتِي بكل حبّ وسرور، فأخذ المال وذهب به إلى أندونيسيا لبناءِ الجامِع، وأشرف على جميع مراحلِ بنائه إلى أن افتَتَحه بنفسه، رحمهُما الله رحمة الأبرار، وأسكنهُما مع المصطفَيْن الأخْيَار.

عرفتُ -أبا صافي- محبّا للوضوحِ والمداعبةِ واللّطائِف، ممقتًا للتملّق والتكلّفِ الزّائف، أنيقَ المسْكنِ والمركبِ واللبَاس، وفيّا لطيفًا رهيف الإحساس، يَقف عند الحقّ، ويحبّ الخيرَ للخلقِ، ولطالما قدّرت فيه خِصلتان هُما: كرامةُ النّفس ونبلُ المقْصد.

لقد كانَ حامد رمضاني أنموذجًا مكّيًا فريدًا، وجيهًا من وجهاء العاصِمة المقدّسة، حُقّ لمن عرفه أن يفجع لِفقْده وينْعيه، وأن يحزَن لموتِه ويبْكِيه..

نعى الناعي فَرَوَّعَنا جميعًا...
وجاز الجرح حدّ الاحتمالِ
أنا المجروح من موت تدلّى...
ليغدر في عزيز كان غالي
رعى الله الفقيدَ بكلّ خيرٍ...
وأسكَنه فسيحات الظلالِ

فلا الدمع يُكفْكِفُ ألمَ رحيلِك، ولا الوجعُ الضّارب في أعماقِ النفس يُخفّف لوعَة فقدِك، لكن لنا من بعدك انتظار في مَحطّات قد تَطول بنا وقد تقْصُر، وقد تُرهق وقد تَصفُو، وقد تُضحك وقد تبكي، وقد تُدني وقد تُبعد، حتى يقدُم الموت عليْنا بلا استئذان أو تردّد، يخْتارنا واحدًا تلو آخر .. "لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعةً وَلَا يَسْتَقْدِمُون"، و"إِنَّا لِلَّهِ وإنَّا إِليْهِ رَاجِعُون".