عبدالوهاب أبوسليمان .. ونفحات من المسجد الحرام
لم يكن اسم العلَّامة الدكتور عبدالوهاب إبراهيم أبوسليمان غريبًا على مسمعي عندما قدمت إلى البلد الحرام دارسًا في كلية الشريعة، فقد كان عميدًا لها؛ بل هو أوّل عميد يحمل شهادة الدكتوراه من بلد غربي، ويصبح عميدًا لأعرق كلية في بلادنا. ولقد اصطفاه فضيلة الشيخ حسن المشّاط؛ الفقيه المالكي، مريدًا يلازمه ليس في الدروس المنعقدة في الحرم المكي فحسب؛ بل كان ملازمًا له في خلوته العلمية، والتي كان يحرص العلماء في تلك الفترة أن يخصّوا بالملازمة من هو أذكى عقلاً، وأصفى قلبًا، وأكرم سلوكًا.
ونتذكر جيلاً آخر تخرّج في الدائرة العلمية للشيخ المشّاط، وكان من أبرز مريديه السابقين الشيخ علي بكر الكنوي والشيخ زكريا بيلا والسيد أحمد زكي يماني؛والسيد محمّد علوي المالكي، والشيخ جميل الخشيفاتي والشيخ عبد الملك بن دهيش، وغيرهم من أبناء البلد الحرام ، رحم الله من مات منهم وبارك في من بقي.
وشاء الله أن يخصّني بشيء من فضله وجوده وإحسانه، فكتبت مقالة أرثي فيها الشيخ الكنوي، الذي درّسني النحو والصرف في قسم اللغة العربية بكلية الشريعة في مكة المكرمة، فسمع شيخنا المشّاط بذلك، ولعله أومأ إلى الشيخ الخشيفاتي، رحمه الله، برغبته في حضوري لدرسه، الذي كان يعقده أحيانًا في منزله، فذهبت بصحبة الوالد والأب الروحي الشيخ عبدالله بصنوي، فلما انفض المجلس، سأل الشيخ المشّاط الوالد البصنوي: هل هذا ابنك؟ فأجاب البصنوي -رحمه الله-: نعم؛ إنه ابني. عندئذٍ تدخّل الشيخ الخشيفاتي بلطف وأدب -وهكذا كان القوم مع مشايخهم- وقال له، مخاطبًا المشّاط: خُصّه بالإذن في الأحاديث العالية السند. فمدّ الشيخ يده وبدأ يقرأ في حديث «إنما الأعمال بالنيّات»، وهو من الأحاديث العالية السند، التي أخذ إجازتها جمع غفير من أبناء العالم الإسلامي والعربي، وبعض من أبناء الحرمين الشريفين، مثل: فضيلة السيد محمّد علوي المالكي، والسيد أحمد زكي يماني.
وتشاء إرادة الله أن نكون في لندن قبل سنوات قليلة، نحضر الحفل الذي أقيم بمناسبة مرور عقدين من الزمن، أو أكثر، على تأسيس دار الفرقان بمبادرة كريمة من السيد اليماني، فذكرت للشيخ عبدالوهاب أبوسليمان هذه المعلومة، وكأنه فهم بحاسته العلمية الرهيفة ما أرمي إليه، فبعث إليَّ، جزاه الله خيرًا، بنسخة من ثبت الشيخ المشّاط، وكتب في الصفحة الأولى بعبارة واضحة وكريمة بإجازتي في جميع مرويات الشيخ المشّاط. وكنت قد حظيت من قبل -بفضل الله- بالإجازة من فضيلة الشيخ محمد بن ياسين الفاداني، وهو من أصحاب السند العالي، ومريد للشيخ العلامة، محدّث الحرمين عمر بن حمدان المحرسي.
كان من وفاء الشيخ أبوسليمان عنايته بمؤلفات شيخه المشّاط، وإخراجها في طبعات منقّحة، ومن بينها المرجع العام في فقه الإمام مالك المسمى «الجواهر الثمينة في بيان أدلّة عالم المدينة»، وحمدت لشيخنا أبوسليمان صنيعه، وهو يدلّ على كرم نفسه، وسعة أفقه، وتمثُّله بأدبيات وأخلاقيات أهل العلم، الذين خالطهم، وأحسن صحبتهم، وكتب عن مؤلفاتهم، ناشرًا بذلك كله علمًا فقهيًا متأصّلاً، ورؤية وسطية معتدلة.
وممّا عرف عن شخصية العلامة أبوسليمان تواضعه الجمّ، فقد كان إذا حضر للاستماع لمحاضرة تُلقى في رحاب الجامعة، فإنه يختار هو وزميله الدكتور محمّد إبراهيم علي، رحمه الله، الصفوف الخلفية من المكان. ويعلم عزيزنا الأديب الأستاذ محمّد عمر العامودي أكثر ممّا أعرف، وقد خالط كلا الرجلين مخالطة معرفة ودراية وثيقة.
ومما توارد إلى سمعي أن الشيخ أبوسليمان يتواصل مع أبناء أصدقائه، وأولئك الذين عرفهم في حلقات العلم بالحرم المكّيّ الشّريف، ويشاركهم أفراحهم، ويبذل جاهه لمؤازرتهم إذا ما احتاجوا إليه.
ولابد لي من أن أشير في هذا المقال، الذي لا يتسع لتعداد مواهب شيخنا ومآثره ودوره العلمي والفكري، إلا أن أختمه بالقول إنني تشرّفت بالعمل معه في «موسوعة مكة المكرمة والمدينة المنوّرة» الصادرة عن دار الفرقان، كأعضاء في المجلس العلمي للموسوعة، وكان -شافاه الله- من أكثر الأعضاء حضورًا ومشاركة واستشرافًا، وهو إذا ما رأى عبارة لا تنسجم مع السياق نبّه إليها في أدب ولطف.
وتقديرًا لمنزلة هذا العالم الفذ، والفقيه والأصولي والأديب، فإني لأرجو أن تقوم الجهات العلمية المختصّة باختياره شخصية العام، عرفانًا بمكانته، وردًا لشيء من جميله.. والله أسأل أن يشافيه من الوعكة التي ألمَّت به، ويجعلها طهورًا له.
صحيفة المدينة 1440/9/2هـ