رواء مكة لـ حسن أوريد.. رحلة انتقال روحية وفكرية
الكثير من الكتاب الكبار تعتريهم أحوال في بداية مشوارهم الفكري، ولعل ذلك يعود لكثير من الأسباب التي تجعلهم يغيرون مسارهم، لأن ذوي الذهن الوقاد منهم، ما يلبثون يبحثون وينقبون بين صفحات المعرفة، حتى يقتفوا في الآخر مسارا يرضونه لحياتهم، مما ترتاح له أرواحهم وتطيب به نفوسهم، والتغير دلالة على الحياة، حسب القاعدة الطبيعية.
فالشخص الذي يلزم طريقا واحدة لا يحيد عنها، ولا يحاول تجديدها، فذلك دليل على أنه لا يتفاعل مع ما يتلقى من معارف ولا ينفذ كل ذلك إلى سريرة نفسه، بل يظل مجرد معرفة نظرية محفوظة، يستظهرها متى احتاج لها، هناك نمادج كثيرة من هذا النوع، مرت عبر التاريخ، منها شخصيات علمية وفكرية.. وغير ذلك كانت تقتفي طريقا ثم ما لبثث أن غيرت المسار.
من أروع الكتب الصادرة حديثا والتي تحكي تجربة انتقال فكرية وروحية، هو كتاب رواء مكة للكاتب المغربي الشهير حسن أوريد، في الحقيقة قليلة هي تلك الكتب التي تأتي على شاكلته، وخاصة أن تكون بهذا الأسلوب الأدبي الشيق والرصين، ونظرا لأهمية الكتاب وما يعالجه من أمر بالغ الأهمية، والذي ربما قد يحتاجه كل شاب في مشوار حياته، ارتأيت أن أقدم بعضا من شاورد فوائده، في هذه التدوينة المقتضبة، ولا يغني ذلك عن مطالعة الكتاب والاستمتاع بما ورد فيه من حكاية تجربة رائعة.
الكاتب حسن أوريد هو من الشخصيات البارزة في المشهد الثقافي والسياسي المغربي عموما، فهو مناضل مشهور يدافع عن قضاياه الوطنية والأمازيغية بالخصوص، وهو خريج المدرسة المولوية كذلك، ارتقى عدت مناصب لعل أهمها اعتلاؤه منصب الولاية على جهة مكناس تافيلات، أصدر عدت روايات أشهرها الموريسكي والتي يحكي فيها جانبا من معاناة محنة الموريسكيين الفارين من الأندلس إلى المغرب..
" الكتاب عبارة عن رحلة حج قام بها الكاتب في سنة 2007، لكنه آثار على نفسه ألا ينشرها إلا في هذه السنة، لكننا نجده أن ما ضمنه كتابه من مذكرات عن هذه الرحلة، قليل بالنسبة لحجم الكتاب، رغم أنه جعل تلك المذكرات هي محور هذا الكتاب ومرتكزه، وقد وضع له اسما يناسبها “رواء مكة” لأنها كانت هي محور تحوله الفكري والروحي."
في الطائرة يجلس الكاتب بجانب زوجته ووجهتهما مكة المكرمة، لكن ذهنه كان في غياهيب الذاكرة، يعود إلى بدايات الحكاية، يستعرض تفاصيل حياته، يقف عند تلك المحطات التي تستعصي على النسيان، يتذكر أيام المجون واللهو، أيام سُجلت في زمن الأخطاء، لكن ذاكرته تأبى عليه إلا أن تاخذه الى تلك المشاهد التي التقطها ذهنه وهو صغير، كيف كان ينظر باستهزاء وقد وقف يتأمل رجلا يدعوا الله، فكان يردد مع نفسه ما هذه التراهات! ما هي إلا آهات تنزل بعدما اصّاعدت إلى السماء كما يتصاعد الماء بعد تحوله إلى بخار فينزل على شكل حبات مطر..
لكن ذاكرته تعود به كذلك إلى لحظات لا يمكن أن ينساها ذهنه، حالات رآها فرق لها قلبه، ليعيد توجيه البوصلة من جديد، رأى زحف أمريكا على العراق، ورآى آلام الروهينغا وهم يقتلون على مرآى ومسمع ممن يؤمنون بالقوانين الدولية دون أن يرف لهم جفن، وأهمها ما يلم بإخواننا الفلسطينيين، رفع الله عنهم الكرب، كل هذا كان يحيي في داخله ذاك الضمير الإنساني، ليجعله يعيد السؤال على نفسه، أين الحق وأين الباطل؟.
كان يحلم بزيارة ذاك المقام، تتوق نفسه إليه، لكن كيف يزوره وهو يعلم أن في ذهابه إلى هناك زوال الجاه والمال والسلطة، كيف يصبر الإنسان على فقد هذه الأمور، التي تفنى دونها الأعمار ولا تدركها، لكنه يجد نفسه ملزما بنذرين، أحدهما قد أخذه على نفسه بعدما اعتذر لأحد أقربائه بأنه لا يستطيع أن يرافقه إلى الحج وهو يلح عليه في مرافقته، والثاني عقده على نفسه في حالة ضعف وهو يرقد في المستشفى والآلام تشتد في جسمه.
عندما أبصر جمال مكة لأول مرة، أحس في نفسه بذلك الانتقال الجذري الذي يحصل له، أحس بخفة في جسمه، كان يعيد ربط العلاقة ما بين تلك الروح التي قتلها منذ أمد بعيد، وهذا الجسد الذي ألّفه عليها، لكنه لم يسلم من تلك الهمزات واللمزات التي كان يراوده بها الشيطان بين الفينة والأخرى، وخاصة بعدما عاد ليدخل في صراع حقيقي معه آنذاك، إذ سيجد نفسه وقد سُلبت منه الولاية وبالتالي فقد الوظيفة، وتوقف الراتي، وكأنه جندي يدخل المعركة بدون سلاح، ليجد ضالته آنذاك في رائحة الكتب، بعدما أضحى يلازم مكتبته، وأصبحت هي غدوته ورواحه.
كان يرى أطفاله وهم يحرمون من عيشة هنيئة، ويرى تلك الحالة من الضيق التي ألمت به، ليُردد مع نفسه كل هذا من أجل ماذا؟ رحلة حج! وهل كانت رحلة حج أم كانت فقط مكاء وتصدية، امتحان عسير وصراع طويل مع النفس، يجسده الكاتب في خواطره التي يصور فيها ذاك النزاع بينه وبين نفسه.
كذلك لم يغفل الكاتب التعرض لبعض أهم الشخصيات التي أسلمت وارتضت الإسلام فلسفة حياة عن اقتناع، وخاصة أولئك الذين أدركوا عمق الإسلام، بعدما كانت لهم تجريبات روحية كابدوا فيها لهيب الحقيقة، يقف الكاتب في بضع صفحات مع الأديبة المشهورة إيزابيل إيبرهارت، ليترجم بعضا من نصوصها ورسائلها إلى زوجها الذي كان بعيدا عنها، لكن هذه النصوص كذلك كانت ترصد بعضا من معاناتها، وفي المقابل تجلدها وصبرها على نوائب الظهر، مما كان يشكل للكاتب عملية تسلية، يروح من خلالها عن نفسه.
المصدر : ام تي اي بوست