صور وطرائف مكية !

تختزن ذاكرتي العديد من الصور والمعلومات عن مكة المكرمة.. المدينة المقدسة التي ولدت فيها ومشيت على ثراها سبعة عقود، حتى الآن! وقد كتب المؤرخون على مدى مئات السنين آلاف الكتب عن مكة المكرمة التي ذُكرت في القرآن الكريم في عشرات من الآيات الشريفة، ولم يعد هناك مجال لمستزيد من الناحية التاريخية. ومع ذلك فلم يزل الباحثون والكتاب والمؤلفون يصدرون مجلدات عن الحياة في أم القرى فيجد كل واحد منهم شيئاً جديداً يكتب عنه وهكذا سيظل الأمر حتى يرث الله الأرض ومن عليها من بشر وحجر ونبات.

ولذلك فقد رأيت أن أكتب عن لقطات بانورامية خفيفة عن مكة المكرمة، منها أن بعض أهلها وزوارها كانوا قبل عدة عقود يعتقدون أن بناء الكعبة مرتفع إلى السماء ولكنهم يرونها على هيئتها بسبب ذنوبهم حتى زعموا أن حاجاً قدم ومعه ابنه الصغير فلما وصلا وأطلا ببصرهما على الكعبة هتف الصغير قائلاً: يا أبت إن الكعبة عالية جداً وبناؤها يعانق السحب، فأخذ والده حبة تمر من بسطة تمار دون أن يدفع ثمنها وألقمه إياها فأكلها الصبي، ثم هتف قائلاً: يا أبت إن بناء الكعبة قد انخفض عما كان عليه من قبل!

وكان بعض المكيين يؤكدون حكاية ارتفاع بناء الكعبة إلى عنان السماء بأن حمام الحرم وطيوره لا تطير فوق الكعبة ولا تقف على حوافها العلوية فسمع بقولهم المؤرخ المكي الشهير، الشيخ محمد طاهر الكردي الذي أرّخ لمكة المكرمة في خمسة مجلدات، وكان خطاطاً بارعاً لا يشق له غبار، فأراد أن يثبت بالدليل القاطع تهافت الحكاية الشعبية عن بلوغ بناء الكعبة عنان السماء حتى ألا يطير فوقها طير، فدس في جيبه كاميرا صغيرة وظل شهوراً يراقب الطير حتى سجل لقطات عديدة لحمائم وطيور تطير فوق الكعبة المشرفة، وتقف فوق طرفها العلوي وحلى بها مؤلفه «التاريخ القويم لبلد الله الكريم».

وكنت ذات يوم أبحث بمساعدة أخ كريم عن بعض مقابر مكة المكرمة غير المعروفة لدى العامة على الرغم من أهمية وخلود ساكنيها فكان مما اطلعت عليه من معلومات أن أحد المكيين قرر دخول الإسلام فخرج من أم القرى متجها إلى المدينة المنورة لإعلان إسلامه بين يدي المصطفى صلى الله عليه وسلم فلما كان في حي الشهداء من مكة المكرمة وهو على نحو خمسة كيلو مترات من المسجد الحرام أدركه الموت ودفن في حي الشهداء فنزلت فيه آية كريمة «ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله» ذلكم هو جندب بن حمزة الليثي رضي الله عنه، فهل يعرف المكيون على وجه التحديد مكان قبر هذا الرجل الذي نزلت فيه آية قرآنية شريفة؟

أما عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، فإن قبره في حي المعابدة حيث جاور الحرم في آخر حياته وشاهد ما فعله الحجاج، بالكعبة وبالصحابي الجليل عبد الله بن الزبير بن العوام رضي الله عنهما وعن والدته أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، فلما دنت وفاة عبد الله بن عمر أوصى بأن يدفن ليلاً في المعابدة، فدفن سراً وقيل إنه أوصى بذلك حتى لا يقف الحجاج على قبره أو يُصلى عليه!

أما عبد الله بن الزبير فقد دفن بعد قتله وصلبه أياما في مقابر المعلاة وقبره معروف ويسمى حوطة عبد الله بن الزبير والله أعلم.

ومن الطرائف المبنية على الاعتقادات الظنية أن بعض سكان مكة المكرمة يحرّمون خروج أي حجر منها من الحرم إلى الحل ويزعمون أن الحجر إذا أخرج منه فإنه يصيح ويبكي حتى يعاد إليه، وحصل في أحد الأزمنة أن أحد الحجاج وجد في متاعه بعد وصوله إلى بلده حجراً صغيراً من حجار رمي الجمرات زاد عن حاجته في الرمي ونسيه في حقيبته فلما رآه فزع وهرع إلى عالم في بلدته وطلب منه أن ينصحه ويدله على الطريقة التي يجب أن يتعامل بها مع ذلك الحجر الصغير، فقال: ارمه على الأرض فعقّب عليه الرجل قائلاً: ولكنه يا مولانا سيظل يصيح ويبكي حتى أعيده إلى الحرم فرد عليه: دعه يصيح حتى ينشق حلقه، فسأله الرجل مستغربا وهل للحجر حلق؟ فقال له العالم فكيف إذن سوف يصيح؟! ثم أفهمه أنه لا شيء عليه، وأن ما يتداوله العوام عن بكاء الحجر المكي لا أصل له فسكن روع الرجل!