مِن قهوة العَم حمزة إلى وزارة الثقافة

في سنة 1352هـ، نَشَرَتْ صحيفة أُمّ القرى مقالةً موقَّعةً باسْم «كويتب»، اتَّخذتْ عبارة «حاجتنا إلى التَّعارُف» عنوانًا لها، وكان أقصى ما يرجوه «كويتب»، في بداءة نهضةٍ أدبيَّةٍ في مملكةٍ ناشئة = أن يُتاح للأدباء تأليف «جمعيَّة أدبيَّة» تَلُمُّ شتاتهم وتكون «واسطة» للتَّقارُب والتَّعارُف.

وفي سنة 1353هـ، أذاع محمَّد سعيد عبد المقصود مقالة، في صحيفة صوت الحجاز، خطا فيها خطوةً، فدعا إلى إنشاء «رابطة أدبيَّة». وفي سنة 1358هـ، كَتَبَ الأديب الشَّابّ أحمد محمَّد جمال مقالةً عنوانها «الأندية الأدبيَّة وحاجتُنا إليها». وبين هذه المقالة وتلك، أنشأ أدباء ذلك الجيل يكتبون ويحلمون بالجمعية، والرَّابطة، والنَّادي، ولَمَّا لمْ يستطيعوا أن يحقِّقوا ما رَجَوْه، قَصَدوا القهوة والمِرْكاز، وحَوَّلوا «كراسي الشَّريط» إلى نادٍ أدبيٍّ، وأنبأَنا التَّاريخ عنْ نادٍ مِنْ أندية ذلك الزَّمان: «قهوة العَمّ حمزة»، في مكَّة المكرَّمة! «أولمب» الأدباء وساحة حوارهم، تعلو الأصوات، حينًا، وتسكن، حينًا آخَرَ، حتَّى إذا جَنَّهُم اللَّيل حَوَّلوا «كراسي الشَّريط» إلى سُرُرٍ للنَّوم، فإذا طلع الصَّباح، تأبَّطوا عباءاتهم، كعادة موظَّفي الحكومة في ذلك الزَّمان! وانتشروا في الشَّوارع والميادين، مصوِّبين وجوههم نحو هذه الوزارة أوْ تلك، فإذا عادوا إلى قهواتهم، استأنفوا حديثًا ما قطعه عنهم إلَّا داعي النَّوم وواجب الوظيفة.

ويُنْبئنا التَّاريخ أنَّه غَبَرَ على أدباء هذه البلاد ومثقَّفيها عهدٌ اتَّخذوا فيه قاعة «جمعيَّة الإسعاف الخيريّ» بمكَّة المكرَّمة مكانًا تُلْقَى فيه محاضرات في الصِّحَّة والدِّين، ثُمَّ إذا بالقاعة تشهد محاضرات وأحاديث في الأدب والثَّقافة والفلسفة، وإذا بالأدباء لا يعنيهم مِنْ جمعيَّة أُنْشِئَتْ لمعالجة المرضى إلَّا تلك القاعة، وما إن اطمأنُّوا أنْ صار لهم «جمعيَّة» تجمعهم، و»رابطة» تلمُّهم، و»نادٍ» يختلفون إليه = حتَّى تَبَدَّدَ هذا الحُلُم، فأُغْلِقَتِ القاعة، وعادوا، مَرَّةً أخرى، إلى مركازهم في «قهوة العمّ حمزة» وكراسي الشَّريط!

في ذلك الزَّمن البعيد لمْ يكنِ الأدباء والمثقَّفون يسألون الحكومة أنْ تُنْشِئَ لهم «جمعيَّةً»، أوْ «رابطةً»، أوْ «ناديًا»، فكلُّ الَّذي يرجونه أنْ تأذن لهم، فإنْ لمْ تأذنْ تَغُضّ الطَّرْف عنهم، عَرَفَ ذلك عبد القدُّوس الأنصاريّ وجماعةٌ مِنَ الأدباء، فأنشأوا في المدينة المنوَّرة «الحفل الأدبيّ للشَّباب السُّعُوديّ»، وكان عبد القدُّوس يتَّقي كلمة «نادٍ» لظنِّه أنَّها مِنَ الكَلِم «المُحَرَّم»، فكان «الحفل» بديلًا لتلك الكلمة المُشْكِلة!

وأدباء ذلك العهد لمْ يسألوا الحكومة أنْ تُنْشئ لهم «جمعيَّاتٍ»، ولا «روابطَ»، ولا «أنديةً»، لأنَّهم كانوا يَعُدُّون إنشاء الجمعيَّة والمدرسة والصَّحيفة أمرًا مَنُوطًا بالمجتمع، فالمدرسة الَّتي اختلفوا إليها أنشأها مُحْسن مِنَ الشَّعْب، والصَّحيفة الَّتي يقرأونها تَنَادَى إلى إنشائها فلانٌ وفلانٌ وفلان، وقِسْ على ذلك المسجد، والسَّبِيل، والمَطْهَرة، والمَبَرَّة، والرِّباط... كلُّ أولئك هِبَةٌ مِنْ هِبَات المجتمع الأهلي، فإذا تَقَدَّمَ بنا الزَّمان، وأصبح أدباء ذلك العهد شيوخًا، رأيْناهم يجتمعون في الرِّياض، يديرون الحديث في شأن «سوق عكاظ»، فلمَّا استبان لهم، وكان ذلك في سنة 1395هـ، أنَّه لا سبيل إلى إحياء تلك السُّوق = أعادوا، مَرَّةً أخرى، حُلُم «النَّادي الأدبيّ»، ولأنَّهم ورثة تقاليدَ تضرب في التَّاريخ، هي بعض بقايا الأوقاف والمجتمع الأهليّ = سألوا الحكومة أنْ تأذن لهم بإنشاء أندية أدبيَّة في غير ناحية مِنْ نواحي البلاد، فلمَّا أجمعوا أمرهم رفعوا هذا «الحُلُم» إلى الأمير فيصل بن فهد، رئيس رعاية الشَّباب، في ذلك الزَّمان، وسَرْعان ما وافاهم أمير الشَّباب بإذنٍ رسميٍّ مِنَ الحكومة بأنْ يُنْشِئَ الأدباء «الشُّيوخ» أنديتهم الأدبيَّة الَّتي حلموا بها في شبابهم!

مضى عهدٌ على الأندية الأدبيَّة طويلٌ، تَوَفَّى الله – تبارك وتعالى – نفرًا مِنْ أولئك الشُّيوخ المؤسِّسين، وخَلَفَ مِنْ بعدهم نفرٌ آخرون، عَرَفوا تلك الأندية فظنُّوها إدارةً مِنْ إدارات رعاية الشَّباب، يومَ كان أمرها إليها، وما تَغَيَّرَ، بَعْدَها، هذا الظَّنّ ولمْ يَتَبَدَّدْ، وغاب عنهم أنَّ الأندية الأدبيَّة إنَّما أُنْشِئَتْ بإذْنٍ مِنَ الحكومة، وأنَّها تتلقَّى مِنْها المؤازرة والمُساندة، لكنَّها ليستْ إدارةً مِنْ إداراتها.

وفي هذه السَّنوات القريبة الماضية ارتفعتْ أصواتٌ، وكُتِبَتْ فُصُولٌ ومقالاتٌ، نادَى فيها أصحابُها بوزارةٍ للثَّقافة، فلمَّا أُنْشِئَتْ وزارة الثَّقافة والإعلام هَلَّلَ الأدباء والمثقَّفون ورَحَّبُوا، لكنَّ «الإعلام» لمْ يتركْ لشقيقته «الثَّقافة» فُرْصة للبُرُوز، وجعلتْ تَحْبُو، وكلَّما أرادتْ نُهُوضًا كَبَتْ، فالإعلام أَثِرٌ لا يَشْبَع، وعاد الأدباء والمثقَّفون، مرَّةً أخرى، ينادون بفصل «الثَّقافة» عن «الإعلام»، فلَمَّا أُنْشِئَت «الهيئة العامَّة للثَّقافة» عَدُّوها غنيمةً رَضُوا بها، ولكنَّهم لمْ يكادوا يأنسون إليها، ولَمَّا يَمْضِ عليها غير أشهرٍ ذوات عددٍ = حتَّى أصبحوا ولا حديث للنَّاس إلَّا هذه الوزارة الَّتي أُنْشِئَتْ حديثًا، أعني «وزارة الثَّقافة»!

تاريخٌ طويلٌ يفصل ما بين عام 1395هـ، يومَ أُنْشِئَتِ «الأندية الأدبيَّة»، وعام 1439هـ، هذا العام الَّذي أصبح النَّاس في يومٍ رمضانيٍّ مبارك، وهُمْ لا يَقْطعون الحديث عنْ «وزارة الثَّقافة» إلَّا بحديثٍ آخرَ جديدٍ عنها، لكنَّ بونًا واسعًا يفصل بين الزَّمنين، تَغَيَّرَتْ

فيه السِّحنات والأجيال والفُهُوم والغايات. كان قُصارَى ما يرجوه الأدباء أنْ يُنْشِئوا «أندية» لا تَخُصُّ سِوَاهُم، فَهُمُ «النُّخبة»، و»الصَّفوة»، وهُمُ «النَّاس»! حتَّى عادتْ هذه «الألقاب» على أنديتهم، بعد أربعةٍ وأربعين عامًا مِنْ مولدها، بغير ما يَرْجونه، فعافَها العامَّة، وانصرف عنها الخاصَّة، وتَثَاقَلَتْ خُطُوات أهل الأدب إليها، وعساهم أدركوا، ولوْ بعد حِينٍ، أنَّ هذه الأندية إنَّما أُنْشِئَتْ لزمانٍ غير هذا الزَّمان الَّذي نعيش فيه، وعساهم عرفوا أنَّ مِنْ أيسر غايات وزارة الثَّقافة أنْ لا تَختصَّ بمباهجها فئةً مِنَ النَّاس دُون سِوَاهُم، بلْ إنَّ أعظم ما يُمكن أنْ تتطاول إليه هذه الوزارة الجديدة النَّاشئة أنْ تُخَفِّف حُزُونة الحياة وقَسْوتها بماء الثَّقافة وطراوة الفُنُون والآداب، فإن استطاعتْ هذه الوزارة أنْ تملأ على النَّاس أوقاتهم بما يَعْمُر الوجدان ويُثْري العُقُول، فذلك، لا شَكَّ، علامة نُجْحها وفلاحها.


نشر في صحيفة مكة بتاريخ الأحد 18 رمضان 1439 - 03 يونيو2018