مكة .. عبقرية الزمان والمكان
منذ سنتين لم أدخل مكة المكرمة حتى يوم الجمعة الماضي قصدتها ويممت صوبها متوخيا العمرة مكبرا ومهللا.. يدفعنا شوق عارم إلى بيت الله الحرام تواقون للمغفرة والرحمة والعتق من النار.. كان كل شيء يمضي في طريقه حتى أدركنا المنطقة المركزية حيث الفندق الذي تعودنا أن ننزل فيه.. شدنا إليه حفاوة الابن جلال كرم ورقيه في التعامل وتذليل المصاعب.
أربع ساعات بالسيارة:
لم أقابل هذا الموقف الصعب في حياتي قط.. فمكة قبلة المسلمين يحس معها زائرها بالطمأنينة وراحة البال.. ولكن مكة لم تكن مكة التي نعرفها سوق الليل والسوق الصغير وسويقة والشبيكة وحارة الباب والهجلة والمسفلة.. كل تلك الأحياء لم تكن على خارطة الزمان والمكان.. قد أدركها حراك التنمية الهائلة التي غيرت كثيرا من معالمها التي ألفناها.. وأدركتها يد الإدارة والتطوير حيث شهدنا أعدادا هائلة من الفنادق لتلبي حاجة الإقبال الكبير من أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين أتوا من كل مكان في العالم.. إذ هم يلبون دعوة أبينا إبراهيم عليه الصلاة والسلام من آلاف السنين..( رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ).
أعود للعنوان.. لقد كان لسوء التوقيت ولأن سائق السيارة (غشيم) فقد مكثنا في السيارة أربع ساعات نطوف حول البيت نقترب تارة ونبتعد أخرى.. ولكن سبحان الله العظيم فإننا لم نستشعر هذه المدة الطويلة.. وفطرنا على جرعات من الماء.. وكان الفندق أمامنا ولكن خطة السير تمنع الدخول.. وهكذا مكثنا نحاول ونحاول.. وأخذنا تاكسي ليقودنا إلى المكان.. ولكن واجهتنا مشكلة أن التاكسي ليس مسموحا له بدخول المنطقة المركزية من غير ركاب.. الأمر الذي حملني على النزول والركوب معه.. وأخيرا وبعد جهد ومعاناة وصلنا إلى أن نغادر سيارتنا ونعبر إلى الفندق مستخدمين الكراسي المتحركة.. وبلغنا الفندق وقد أذن للعشاء.. أعني أننا قد فاتنا فرضان.. المغرب والعشاء.
مكة وروعة التنظيم:
وسبحان الله قد قابلنا أفواجا من البشر من كل أصقاع العالم بلغات مختلفة وسحن متفاوتة كلهم ذاهبون إلى المسجد.. وبعضهم يقطع مئات الأمتار للوصول إلى البيت الحرام.. ومن روعة التنظيم جهود رجال المرور ورجال الأمن العام وكل أؤلئك الذين كان لهم شرف المساهمة في التنظيم وفي خدمة ضيوف بيت الله الحرام.. لقد كان في السابق يفرض الزحام خطوته ويعرقل السير وتصعب مهمة الطواف والسعي.. أما الآن كل شيء ميسر مع أن الظاهرة الغريبة أن الكراسي المتحركة أصبحت في أيدي عدد من البشر من شتى أنحاء المملكة مع أن التنظيم أدركهم وكل واحد منهم يحمل رقما مطبوعا على ظهره ومن أمامه.. وأن طرقا خصصت لمن يستخدمون الكراسي ليصلوا إلى البيت الحرام في سهوله ويسر.
العناية الفائقة وارتفاع معدلات النظافة:
أكاد أزعم صادقا وعن يقين ثابت بأن الحركة التي تجري في داخل الحرم حركة غير عادية بل هي استثنائية.. تشهد ببراعة وقدرات المسؤولين عن الحرمين الشريفين في مقدمة ذلك الشيخ الدكتور عبدالرحمن السديس وفريق العمل الذي يسانده.
الطواف بعيدا عن البيت العتيق:
لا يكاد الطائف ببيت الله العتيق أن يستشعر تلك الروحانية العجيبة التي كنا نستشعرها عند الطواف بجوار الكعبة المشرفة.. ليت شيخنا السديس وفريق عمله يستثمرون التقنية الحديثة في إيجاد حل يحقق رغبات المئات من مستخدمي الكراسي المتحركة بما يضمن توفير الراحة للطائفين ببيت الله العتيق.
خالد الفيصل وعبقرية المسؤول:
لقد كانت فرصة أن أبث شكواي وعائلتي من المعاناة الطويلة لأمير مكة المكرمة.. وقد أدهشنى مدى استيعاب هذا الرجل لفلسفة الزمان والمكان وسدد أمامي كل الثغرات.. ولم أملك إلا أن أشهد الله بأنه الأمير الحق الذي يحترم مسؤوليته ويحترم كل معتمر وكل حاج وزائر بأسلوب إيماني مبدع.. الأمر الذي يجعلك وكل زوار مكة المكرمة تستشعرون مدى روعة التنظيم والتخطيط.. وكيف أن مكة تتغير في كل وقت.. وحسبي الله ونعم الوكيل.