أسباب تفشي الجرب في مدارس مكة
في برنامج يا هلا على قناة روتانا خليجية مساء الثلاثاء 17/ 7/ 1439هـ، والذي استضافني مع شخصيات اعتبارية عدة لمناقشة موضوع (انتشار الجرب في مدارس مكة) تعجبت حقيقة من نفي المتحدث الرسمي للوزارة الأستاذ مبارك العصيمي وجود أي تكدس وتبسيطه للموضوع.
طبعا هو يتحدث من الرياض، من مكتبه المكيف وأريكته الوثيرة بعيدا عن الواقع، وكم كنت أتمنى لو أنه زار إحدى مدارس مكة وشاهد بأم عينه الوضع القائم! كما كنت أتمنى من معالي وزير التعليم الذي زار بعض مدارس مكة النموذجية في حي الزايدي - والتي قامت بعمليات رش وتطهير قبل وصوله - حفاظا على سلامته - لو أنه زار المدارس التي في المسفلة وشارع المنصور والنكاسة، والتي وجدت بها الحالات، وشاهد بأم عينه التكدس والتصدع في المباني! بل أتمنى لو أنه اطلع على إحصاءات عن أعداد الطلاب والطالبات بكل مدرسة ومساحة الفصول. وهل هي متوافقة مع ما يتم طرحه عالميا كحق من حقوق الطالب في التعليم؟ وهل مدارسنا مقاربة في بيئاتها التعليمية مع مدارس فنلندا التي أرسل إليها فريق من المعلمين والمعلمات للاطلاع على أنظمة التعليم فيها؟ كما كتب معاليه الإهداء في كتابه (إصلاح التعليم .. ) لأبنائه، وأنه يتمنى لو أنهم وجدوا تعليما أفضل مما حصلوا عليه!
وكم نتمنى نحن جميعا أن يصل أبناؤنا إلى هذه المرحلة في حقوقهم التعليمية، وأن يجدوا فيها كل ما يحقق طموحاتهم، ومنها الأمن الصحي.إن الجالية البرماوية وجدت في مكة المكرمة منذ الستينات من القرن الماضي، ومنحت الحكومة السعودية أفرادها إقامات بمهنة مجاور للعبادة، وعاشوا بين ظهرانينا، وولاؤهم وانتماؤهم لهذه الأرض. وقد تم تصحيح أوضاعهم وأعطوا إقامات نظامية وسمح لهم بالعمل , وقد أسسوا مدارس لأبنائهم وكانت برعاية جهات خيرية متنوعة، ولكن رأت الحكومة السعودية عدم إبقاء أي مدارس خارج نطاق إشراف وزارة التعليم وضرورة الإشراف عليها. ومن هنا قامت إدارة التعليم بمكة بإجراءات منها دمج جميع أبناء الجاليات في مدارس التعليم العام، وكانت هذه خطوة أو قرارا غير مدروس حقيقة؛ فمنذ عام 1435 حتى عامنا هذا قد تم ضم أكثر من 70 ألف طالب وطالبة من أبناء الجاليات إلى مدارس التعليم العام.
فإذا كانت مدارسنا أصلا تعاني من التكدس والزحام، فما بالك بدمج هذا العدد الكبير مع أبنائنا! فإذا علمنا أن بعض المدارس قد ذهبت في المشاريع وأزيلت، وأخرى تم ضمها لمدارس أخرى في الحي وتم تقليص عدد المدارس - لتقليص الميزانية - فلك أن تتخيل «معالي المواطن» حجم التكدس الذي يعانيه أبناؤنا وبناتنا في مكة!
ويعتبر التكدس بعد ضم طلاب وطالبات الجاليات للتعليم العام من أول الأسباب لانتشار الأمراض المعدية، ومنها الجرب، وهذا ما أكده أطباء ومستشارو طب الأسرة من أن الجرب يظهر في الأوساط المكتظة التي تمثل بيئات تنقصها النظافة، ويصبح التلامس فيها والتقارب كبيرا.
فأصبحت البيئة الصفية في مدارسنا موبوءة. لأن الطاقة الاستيعابية أقل مما هو مفترض، خاصة في المدارس المستأجرة التي على فترتين وثلاث فترات، مما سهل للفيروس الانتشار وانتقال العدوى باستخدام نفس الماصات والأدوات من عشرات الطلاب يوميا.
كان الأفضل إبقاء الجاليات في مدارسهم وتحسين أوضاعهم البيئية المدرسية، وتدريب وتنمية كوادرهم البشرية - التي كانت تتحصل على 600 أو 700 ريال كمرتب شهري، فأصبحت تعاني مرارة البطالة والفقر - وتقوم الإدارة كذلك بالإشراف عليهم من الإشراف التربوي، والتعليم الأهلي والأجنبي، ونشاط الطلاب والطالبات وغيرها من الإدارات التعليمية، دون هذا الدمج والتكدس! فضلا عن صعوبات النقل والمواصلات التي قابلت تلك الأسر؛ لأن توزيعهم الجغرافي كان حسب الشاغر وليس حسب قرب المدرسة منهم. فأصبح هناك طلاب وطالبات يدرسون في الغرب، وآخرون في الشرق، وقد ظهر المرض في حي الشرائع أيضا، بل وصل حتى إلى الأحياء البعيدة عن المسفلة والنكاسة وجنوب مكة عموما.
أرى أن القضاء على بؤر المرض الأساسية أهم ما يمكن العمل عليه الآن، حيث كشفت أمانة العاصمة المقدسة والمجلس البلدي قبل يومين عن عشوائيات في أحياء يسكنها البرماويون لبيع وتجارة لحوم جمال مريضة بالجرب، وأنها ربما السبب في نقل المرض. ونحن دائما هكذا، لا نستفيق إلا بعد حدوث كارثة أو مشكلة! أين أمانة العاصمة المقدسة من العشوائيات والبيع غير المقنن؟ أين هي من نظافة تلك الأحياء والوصول لأولئك الذين لا يجدون قوت يومهم فكيف بأدوات ومواد وأكياس نفايات؟
حقيقة إن ما وصل إليه الحال ليس سببه البرماويون، بل الظروف القاهرة التي عاشوا فيها؛ فقر، وبطالة، ومرض، وعمل في أدنى المهن، وتجارة عشوائية بدراهم معدودة بخسة يستطيعون من خلالها سد رمقهم والحصول على لقمة العيش.
ثم أين رجال الأعمال والقطاع الخاص من البنوك والشركات وغيرهم عن دعم هؤلاء؟ أرى ضرورة عمل (صندوق لدعم الجاليات بمكة) من حيث السكن الصحي، والتعليم، وتوفير الحياة الكريمة لهم. فهؤلاء هم جيران بيت الله الحرام وسلامتهم تعني سلامة أهالي مكة عموما وسلامة الحجاج والمعتمرين. يجب تطهير بؤر المرض ونظافة البيئات السكنية والتعليمية وإلا فإن المرض سينتشر بصورة أكبر لا قدر الله.
أخيرا، لماذا قلت إن دمج أبناء الجاليات كان قرارا غير مدروس؟ لأن القرار لم يراع الجوانب الصحية، والاجتماعية، والبيئية. ولكن أليست ميزانية الدولة للتعليم لعام 2017م بلغت 200 مليار ريال، فأين تلك الميزانية؟ والله لو قدم مليار ريال لكل منطقة لبناء المدارس وتحسين البيئات التعليمية لقضينا على كثير من مشكلاتنا التعليمية. ولنترك المقررات الالكترونية وغيرها إلى سنة أخرى، فنطمئن أولا على أوضاع أبنائنا الذين ربما سيزداد كرههم للمدرسة ويجدون الخوف من المرض حجة لعدم الذهاب إليها.
نُشر في صحيفة مكة بتاريخ : الخميس 19 رجب 1439 - 05 أبريل 2018
طبعا هو يتحدث من الرياض، من مكتبه المكيف وأريكته الوثيرة بعيدا عن الواقع، وكم كنت أتمنى لو أنه زار إحدى مدارس مكة وشاهد بأم عينه الوضع القائم! كما كنت أتمنى من معالي وزير التعليم الذي زار بعض مدارس مكة النموذجية في حي الزايدي - والتي قامت بعمليات رش وتطهير قبل وصوله - حفاظا على سلامته - لو أنه زار المدارس التي في المسفلة وشارع المنصور والنكاسة، والتي وجدت بها الحالات، وشاهد بأم عينه التكدس والتصدع في المباني! بل أتمنى لو أنه اطلع على إحصاءات عن أعداد الطلاب والطالبات بكل مدرسة ومساحة الفصول. وهل هي متوافقة مع ما يتم طرحه عالميا كحق من حقوق الطالب في التعليم؟ وهل مدارسنا مقاربة في بيئاتها التعليمية مع مدارس فنلندا التي أرسل إليها فريق من المعلمين والمعلمات للاطلاع على أنظمة التعليم فيها؟ كما كتب معاليه الإهداء في كتابه (إصلاح التعليم .. ) لأبنائه، وأنه يتمنى لو أنهم وجدوا تعليما أفضل مما حصلوا عليه!
وكم نتمنى نحن جميعا أن يصل أبناؤنا إلى هذه المرحلة في حقوقهم التعليمية، وأن يجدوا فيها كل ما يحقق طموحاتهم، ومنها الأمن الصحي.إن الجالية البرماوية وجدت في مكة المكرمة منذ الستينات من القرن الماضي، ومنحت الحكومة السعودية أفرادها إقامات بمهنة مجاور للعبادة، وعاشوا بين ظهرانينا، وولاؤهم وانتماؤهم لهذه الأرض. وقد تم تصحيح أوضاعهم وأعطوا إقامات نظامية وسمح لهم بالعمل , وقد أسسوا مدارس لأبنائهم وكانت برعاية جهات خيرية متنوعة، ولكن رأت الحكومة السعودية عدم إبقاء أي مدارس خارج نطاق إشراف وزارة التعليم وضرورة الإشراف عليها. ومن هنا قامت إدارة التعليم بمكة بإجراءات منها دمج جميع أبناء الجاليات في مدارس التعليم العام، وكانت هذه خطوة أو قرارا غير مدروس حقيقة؛ فمنذ عام 1435 حتى عامنا هذا قد تم ضم أكثر من 70 ألف طالب وطالبة من أبناء الجاليات إلى مدارس التعليم العام.
فإذا كانت مدارسنا أصلا تعاني من التكدس والزحام، فما بالك بدمج هذا العدد الكبير مع أبنائنا! فإذا علمنا أن بعض المدارس قد ذهبت في المشاريع وأزيلت، وأخرى تم ضمها لمدارس أخرى في الحي وتم تقليص عدد المدارس - لتقليص الميزانية - فلك أن تتخيل «معالي المواطن» حجم التكدس الذي يعانيه أبناؤنا وبناتنا في مكة!
ويعتبر التكدس بعد ضم طلاب وطالبات الجاليات للتعليم العام من أول الأسباب لانتشار الأمراض المعدية، ومنها الجرب، وهذا ما أكده أطباء ومستشارو طب الأسرة من أن الجرب يظهر في الأوساط المكتظة التي تمثل بيئات تنقصها النظافة، ويصبح التلامس فيها والتقارب كبيرا.
فأصبحت البيئة الصفية في مدارسنا موبوءة. لأن الطاقة الاستيعابية أقل مما هو مفترض، خاصة في المدارس المستأجرة التي على فترتين وثلاث فترات، مما سهل للفيروس الانتشار وانتقال العدوى باستخدام نفس الماصات والأدوات من عشرات الطلاب يوميا.
كان الأفضل إبقاء الجاليات في مدارسهم وتحسين أوضاعهم البيئية المدرسية، وتدريب وتنمية كوادرهم البشرية - التي كانت تتحصل على 600 أو 700 ريال كمرتب شهري، فأصبحت تعاني مرارة البطالة والفقر - وتقوم الإدارة كذلك بالإشراف عليهم من الإشراف التربوي، والتعليم الأهلي والأجنبي، ونشاط الطلاب والطالبات وغيرها من الإدارات التعليمية، دون هذا الدمج والتكدس! فضلا عن صعوبات النقل والمواصلات التي قابلت تلك الأسر؛ لأن توزيعهم الجغرافي كان حسب الشاغر وليس حسب قرب المدرسة منهم. فأصبح هناك طلاب وطالبات يدرسون في الغرب، وآخرون في الشرق، وقد ظهر المرض في حي الشرائع أيضا، بل وصل حتى إلى الأحياء البعيدة عن المسفلة والنكاسة وجنوب مكة عموما.
أرى أن القضاء على بؤر المرض الأساسية أهم ما يمكن العمل عليه الآن، حيث كشفت أمانة العاصمة المقدسة والمجلس البلدي قبل يومين عن عشوائيات في أحياء يسكنها البرماويون لبيع وتجارة لحوم جمال مريضة بالجرب، وأنها ربما السبب في نقل المرض. ونحن دائما هكذا، لا نستفيق إلا بعد حدوث كارثة أو مشكلة! أين أمانة العاصمة المقدسة من العشوائيات والبيع غير المقنن؟ أين هي من نظافة تلك الأحياء والوصول لأولئك الذين لا يجدون قوت يومهم فكيف بأدوات ومواد وأكياس نفايات؟
حقيقة إن ما وصل إليه الحال ليس سببه البرماويون، بل الظروف القاهرة التي عاشوا فيها؛ فقر، وبطالة، ومرض، وعمل في أدنى المهن، وتجارة عشوائية بدراهم معدودة بخسة يستطيعون من خلالها سد رمقهم والحصول على لقمة العيش.
ثم أين رجال الأعمال والقطاع الخاص من البنوك والشركات وغيرهم عن دعم هؤلاء؟ أرى ضرورة عمل (صندوق لدعم الجاليات بمكة) من حيث السكن الصحي، والتعليم، وتوفير الحياة الكريمة لهم. فهؤلاء هم جيران بيت الله الحرام وسلامتهم تعني سلامة أهالي مكة عموما وسلامة الحجاج والمعتمرين. يجب تطهير بؤر المرض ونظافة البيئات السكنية والتعليمية وإلا فإن المرض سينتشر بصورة أكبر لا قدر الله.
أخيرا، لماذا قلت إن دمج أبناء الجاليات كان قرارا غير مدروس؟ لأن القرار لم يراع الجوانب الصحية، والاجتماعية، والبيئية. ولكن أليست ميزانية الدولة للتعليم لعام 2017م بلغت 200 مليار ريال، فأين تلك الميزانية؟ والله لو قدم مليار ريال لكل منطقة لبناء المدارس وتحسين البيئات التعليمية لقضينا على كثير من مشكلاتنا التعليمية. ولنترك المقررات الالكترونية وغيرها إلى سنة أخرى، فنطمئن أولا على أوضاع أبنائنا الذين ربما سيزداد كرههم للمدرسة ويجدون الخوف من المرض حجة لعدم الذهاب إليها.
نُشر في صحيفة مكة بتاريخ : الخميس 19 رجب 1439 - 05 أبريل 2018