من يبث سموم العنصرية ؟

في كل فصل دراسي يُطلب من طالباتنا اللاتي تبقى لهن عام واحد على التخرج تكوين مجموعات من 3-4 طالبات من أجل العمل على مشروع التخرج الذي سيمتد لفصلين دراسيين، أي سنة أكاديمية كاملة. ولأنها فترة ليست بالقصيرة، ولأن العمل فيها سيكون على أهم مشروع خلال مسيرتهم الدراسية في مرحلة البكالوريوس، فإنهن يحرصن على انتقاء أفراد المجموعة بعناية شديدة.

هذا الفصل مثل كل فصل كانت تصلني طلباتهن من أجل سؤالي إن كنت أرغب بالإشراف عليهن، فكنت أبتسم وأنا أشاهد هذا التنوع والتناغم في الوقت نفسه ضمن أفراد المجموعة الواحدة. ففي كل مجموعة تقريبا طالبات من مناطق سعودية مختلفة وأصول متنوعة ولهجات متباينة ومتشابهة في آن واحد. كان جميلا أن تشاهد الوطن كله في وجوه بضع شابات يافعات يعملن بجد ويحلمن بالمستقبل.
وإن بالرغم من أن الأمر ليس جديدا، بل يتكرر كل فصل منذ أن التحقت للعمل بالجامعة قبل بضع سنوات، إلا أنه لفت انتباهي لأول مرة بهذا الشكل نظرا لتصاعد النفس العنصري والكتابات التي تحث على الكراهية بشكل غير مسبوق على شبكات التواصل الاجتماعي.

ففي البداية كان هناك التنابز والتنافر عبر المنتديات الإلكترونية آنذاك بين الدول والشعوب العربية، ثم تحولت الموجة باتجاه التنافر الطائفي بين السنة والشيعة، حتى وصلنا إلى المرحلة الأخطر -على الصعيد المحلي السعودي- وهي بث الكراهية ضد من يشاركوننا الوطن من الإخوة المقيمين، وسرعان ما تحول ذلك إلى بث للكراهية ضد أبناء الوطن نفسه! فبتنا نجد اليوم من يحاول التقليل من شأن بعضهم، والتشكيك في وطنيتهم، وصولا إلى المطالبة بسحب جنسيتهم باعتبارهم خونة ومرتزقة، والتعامل معهم، أو مع شرائح كبرى منهم ممن يشكلون سكان منطقة بأكملها، وكأنهم طارئون على هذا الوطن، وما جاؤوا إلا بعد النفط للمشاركة في خيرات البلاد!

هؤلاء يتجاهلون التاريخ بأن الهجرات من وإلى بلاد الحرمين قديمة قدم الإسلام نفسه، وهؤلاء كانوا رعايا في الدول التي قامت في المنطقة قبل توحيد البلاد وتأسيس هذا الكيان الشامخ على يد رجل عظيم لم يفرق بين الناس، بل بحث عن الأصلح والأكفأ منهم آنذاك وجعلهم وزراء ومستشارين. وهو نهج واصل أبناؤه الملوك من بعده السير على نهجه، محققين رؤية والدهم العظيمة في وطن ناهض وآمن ومستقر.
وإذا كان أجدادنا، الذين كانوا حدثاء عهد بالوحدة والاتحاد، وربما شارك بعضهم في معارك ضد جيوش المؤسس مع إمارات مناطقهم قبل قيام المملكة العربية السعودية، قد تآلفوا وتعايشوا وتعاونوا، بل وبعضهم تصاهروا، أليس غريبا أن يستيقظ النفس العنصري بهذه الحدة -اللفظية على الأقل- بعد ما يقارب المئة عام؟!

وبعيدا عن طالباتي، نظرت في حي منزل أهلي، فوجدت جيراننا من كل حدب وصوب، وحين تجتمع النسوة في بيت أمي تتداخل الأصوات واللهجات، وتحضر أطباق الشمال والجنوب، وتلك التي تشتهر بها القبائل وأخرى معروفة لدى الحواضر. وتسمع الضحكات والحكايات إياها، ففي كل بيت فرح ومشكلات في نفس الوقت، فالبشر الذين يتشاركون هذا المكان الجميل لهم نفس الهموم ونفس الأحلام.
فمن هي هذه الحية إذا التي تبث السموم في شبكات التواصل الاجتماعي، وتركز على شكليات يستحي المرء من كتابتها من أجل تعميق الهوة بين المواطنين، وزعزعة استقرار المجتمع وأمن البلد، وتحت -يا للعجب- دعاوى الوطنية؟!

إن ما نقرؤه من كراهية وحقد في تويتر، لا يعكس ما نشاهده من انسجام ومودة وتواصل على أرض الواقع، مما قد يعني أن مثل هذه الحسابات السيئة -أغلبها بأسماء مستعارة- والوسوم المسيئة التي تريد تمزيق الوحدة الوطنية السعودية قد تكون موجهة من الخارج، من قبل دول ومؤسسات إقليمية أو دولية، فما أكثر المتربصين بهذه البلاد والذين لا يرجون لها أي خير. وإذا كنا لا نملك إيقافها خاصة إذا كانت تبث من خارج الوطن، فإن لدينا تدابير أخرى يتوجب علينا القيام بها للحد من تأثيرها وإفشال مخططاتها الخبيثة.

فمن ناحية هناك ضرورة لرفع الوعي، عن طريق التحذير منها وكشف عوارها وتصحيح المفاهيم التاريخية المغلوطة لدي البعض، والتوضيح ابتداء بأنه لا فرق بين المواطنين في هذه الدولة، سواء نال المواطن الجنسية اليوم أم ورثها أباً عن جد. وثانيا، إن المملكة قامت على أنقاض عدة دول، كان لكل منها تاريخها وحضارتها وانصهرت كلها في الكيان السعودي، والأجداد في كل منهم كانت لهم بصمتهم في ذلك الانصهار. فمنهم من شارك بالتأسيس، ومنهم من شارك في البناء، أو كليهما معا. وإن من قمة الوفاء لهم جميعا هو أن نحافظ على هذه المكتسبات ولا نضيع دماءهم ولا ما أفنوا حياتهم لأجله.
ومن الجميل أن هناك عددا من الكتاب المعروفين الذين تنبهوا وكتبوا في هذا الموضوع في عدة صحف، ومنهم الأستاذ غسان بادكوك، والأستاذ عبد الرحمن الراشد، والأستاذ محمد البلادي، وغيرهم.

أما من ناحية ثانية فلا بد من قوانين رادعة، أشبه بتلك التي استخدمت بفاعلية كبيرة ضد نشر خطابات التحريض والإرهاب، فيصبح مجرد النطق بألفاظ معينة مدعاة للمساءلة والمحاسبة. وهو أمر قامت به دول عديدة للحفاظ على سلمها الوطني. ففي أميركا ستحاسب على كلمة زنجي، وفي بريطانيا على كلمة (باكي)، وهي تصغير لباكستاني، ولكن تقال على سبيل التحقير للبريطانيين المنحدرين من أصول آسيوية. وقد تعرض الأمير هاري ابن ولي العهد البريطاني للوم شديد في الإعلام البريطاني قبل بضع سنوات حينما ظهرت تسجيلات وهو يمازح زميلا له في الجيش قائلا يا باكي! وكذلك عندما ارتدى زيا نازيا في حفلة تنكرية في مطلع شبابه، إذ إنه لا مجال للمزاح في هذه المسائل الحساسة التي يمكن أن تتسبب بشرخ أو انقسام في الوطن. وللأمانة فحساب (كلنا أمن) التابع لوزارة الداخلية بدأ يقوم بجهد طيب في توضيح العقوبات المترتبة على التحريض والتشهير في شبكات التواصل الاجتماعي، وإن كنت أتمنى أن تركز تحديدا على العنصرية لتصاعدها.

وأخيرا، لا يمكن أن نرسخ موضوع أن المواطنين سواسية وبعض قضاتنا يقبلون النظر في قضايا تكافؤ النسب بعد الزواج بدعاوى كيدية من زمن الجاهلية. فالشرع يشترط موافقة الفتاة ووليها فقط في حالة البكر، فإن تمت الموافقة وكُتب العقد وتم الدخول بل والإنجاب، فبأي منطق يتم التفريق بين مواطنين متحابين لأن ابن عمهما من الدرجة الثالثة لم يعجبه هذا الزواج؟
العدوان الخارجي يشكل خطرا ولا شك على الدول، ولكنه في الوقت نفسه يوحد الجبهة الداخلية ضد الأجنبي، أما تفتيت المجتمعات من الداخل فأخطر بكثير، لأنه يجعلها تتآكل داخليا كالسرطان. ومع أن مجتمعنا متماسك وجبهتنا قوية لكن هذا لا يمنع من التنبه للجرثومة مبكرا، والقضاء عليها قبل أن تتكاثر وتنتشر.

نُشر في صحيفة الوطن بتاريخ : 2018-03-07