رواية مجهولة لأحمد السِّباعيّ تدعو إلى إصلاح الطِّوافة!

أَلِفَ النُّقَّاد والدَّارسون أن يسوقوا اسْم أحمد السِّباعيّ (1323-1404هـ) في كُتَّاب الرِّواية في المملكة العربيَّة السُّعُوديَّة، وفي الرُّوَّاد مِنْهم، فهو ثالث ثلاثة كان لهم شرف الرِّيادة لهذا النَّوع الأدبيّ: التَّوأمان، لعبد القدُّوس الأنصاريّ (1349هـ)، والانتقام الطَّبعيّ لمحمَّد الجوهريّ (1354هـ)، وفِكْرة لأحمد السِّباعيّ (1368هـ)، بلْ إنَّ هذه الرِّواية ثارتْ حولها معركة أدبيَّة عنيفة في صحيفة صوت الحجاز، أثار أتُونها أحمد عبد الغفور عطَّار، ثُمَّ ما لبثتْ أن اختصم فيها الأدباء والنُّقَّاد، مِنْ متعصِّب لها ومتعصِّب عليها، وما نَقَمَ عطَّار مِنْها إلَّا لأنَّ كاتبها ظفر بجائزة أدبيَّة لها شأنها في تلك المُدَّة، حتَّى إذا تَقَدَّمَ بنا الزَّمان نالتْ هذه الرِّواية مِنْ عناية الدَّارسين فوق ما اعتنوا بأعمال أدبيَّة أخرى للسِّباعيّ، واستجلب نظرهم فيها بطلتُها الَّتي تُدْعَى «فِكْرة»، تلك الفتاة الرِّيفيَّة الذكيَّة، وتلك التَّعبيريَّة الَّتي لَفَّتْ أوصال الرِّواية.

لكنَّنا نقرأ في ثَبَتَ مؤلَّفات أحمد السِّباعيّ كُتُبًا

أخرى، نقرأ له تاريخ مكَّة، وترجمته الشَّخصيَّة أيَّامي، ومجموعًا قصصيًّا دعاه خالتي كدرجان، وكُتُبًا أخرى في الأمثال، والمقالات، غير ما قُرِّرَ على طُلَّاب المدارس، أوَّل عهد البلاد بالتَّعليم النِّظاميّ الحديث، وكان السِّباعيّ معدودًا في رجالات التَّربية والتَّعليم، فأنشأ لذلك الغرض غير كِتاب مدرسيّ يلائم عقول الطُّلَّاب والتَّلاميذ.

كان السِّباعيّ أديبًا رِوائيًّا وقصصيًّا، وكان كاتب مقالة في الصِّحافة، وكان صحفيًّا منشئًا للصُّحُف والمجلَّات، ومحِبًّا للمسرح مؤسِّسًا له، وكان، قبل ذلك، شاعرًا أثبت له كِتاب وحي الصَّحراء قصائد مِنَ الشِّعْر المنثور، عليها سيماء المهجريِّين، ولا سيَّما زعيمهم جبران خليل جبران، وكان مدرِّسًا، وموظَّفًا في دواوين الحكومة، ويعنينا مِنْه أنَّه كان «مطوِّفًا» على عادة الأُسَر القديمة في مكَّة المكرَّمة، بلْ إنَّه أخذ على نفسه تطوير مهنة «الطِّوافة» والنُّهُوض بها، يدلُّنا على ذلك أنَّ له فيها كِتابين، أوَّلهما المرشد إلى الحجّ والعُمْرة (1368هـ)، وآخِرهما مُطَوِّفُون وحُجَّاج (1373هـ).

وأقرب الظَّنّ أنَّه لا الأديب ولا مُحِبُّ الأدب سيجدان في هذين الكِتابَيْن ما يحملهما على قراءتهما أو النَّظر فيهما، وأكثر ما يقال: إنَّ السِّباعيّ، وإنْ كان أديبًا مِنْ رُوَّاد الأدب في البلاد، فهو ابن أُسرة امتهنتِ «تطويف» الحُجَّاج، وإنْ كان القارئ يَعْرِف شيئًا مِنْ حياة المكِّيِّين، فعساه يُعِيد ذلك إلى أنَّ جمهرة مِنَ الأُسَر في البلد الحرام، تعتدُّ «الطِّوافة» تراثًا لها، تَحَدَّرَ إليها مِنَ الآباء والأجداد، فلمَّا كانتِ الدَّولة الحديثة، وعرف المكيُّون التَّعليم الحديث والوظائف في دواوين الدَّولة = لمْ يَطَّرِحُوا ذلك التُّراث، ولكنَّهم استمسكوا به، فكان شيئًا طبيعيًّا أن يُؤلَّف في هذه المهنة القديمة الكِتاب والكِتابان والثَّلاثة، وإنْ كان المؤلِّف أديبًا مؤرِّخًا مِنْ رُوَّاد الأدب والثَّقافة في البلاد.

عرفْتُ، في زمنٍ ليس بعيدًا، كِتاب مطوِّفون وحُجَّاج، وكان عزيزًا نادرًا، قبل أنْ تُعِيد اثنينيَّة عبد المقصود خوجه نشر الأعمال الكاملة للسِّباعيّ، ولبث الكِتاب في خزانة كُتُبي دون أنْ أقرأه، حتى كانتْ أمسيَّة مِنْ تلك الأماسيّ الَّتي أفرغ فيها لشيء مِنَ القراءة الحُرَّة الَّتي لا أرجو، مِنْ ورائها، شيئًا إلَّا القراءة، فامتدَّتْ يدي إلى حيث الكِتاب، وأخذْتُ أقرأه، وإذا بي أبلغ منتهاه في جلسة واحدة، وإذا بي إزاء عملٍ أدبيٍّ معدودٍ في «الرِّواية». وعجبْتُ لهذا الكِتاب إذْ إنَّني لمْ أقرأْ شيئًا عنْه فيما كَتَبَه دارسو الرِّواية ونُقَّادها لدينا؛ لمْ يكتبْ عنه مَن اختُصُّوا بالرِّواية مِنْهم، ولا أثر لديه في مؤلَّفات منصور الحازميّ، ومحمَّد صالح الشَّنطيّ، وسلطان القحطانيّ، وحسن حجاب الحازميّ، وحسن النِّعميّ، وكأنَّما هؤلاء الدَّارسون لمْ يتنبَّهوا إلى هذه «الرِّواية»، أوْ لعلَّهم اكتفوا بجريدة مؤلَّفاته فما استجلب نظرهم كِتابٌ في شأن مِنْ شؤون الحجّ والطِّوافة، وما للنُّقَّاد والدَّارسين ولهما، إلَّا سعيد الجعيديّ في رسالته أحمد السِّباعيّ أديبًا، فلقد اختصَّها بفصل تامّ.

أوَّل ما نقرأه في مطوِّفون وحُجَّاج آية قرآنيَّة كريمة هي {ولله العِزَّة ولرسوله وللمؤمنين}، يتلوها الإهداء ونقرأ فيه:

إلى الجيل الجديد مِنْ أحفاد المطوِّفين..

إلى النَّشْء الَّذي تَفَتَّحتْ عيناه على النَّهضة العِلْمِيَّة الحديثة، وعَرَفَ مِنْ معاني الرُّجُولة والكرامة في الحياة أحدث ما أنتجتْه تجارب العصور.. أُهدي كتابي.

حتَّى إذا بلغْنا كلمته إلى القارئ دعا السِّباعيّ كِتابه هذا «رواية»، وأَجمَلَ لنا سِيرة بطل روايته وأنَّه يعتزي إلى «بيت عريق المجد مِنْ بيوت المطوِّفين القدامَى... وكان يرهقه ويعذِّب وجدانه محاولة التَّوفيق بين الماضي المجيد الَّذي كانتْ مهنته تتألَّق فيه، وبين الحاضر الَّذي انحدرتْ إليه بفعل التَّنافُس البغيض»! فإذا استوفيْنا «الرِّواية» أدركْنا أنَّها كانتْ بَسْطًا لتلك الكلمة، وكأنَّما لمْ يسطع السِّباعيّ على قارئه صبرًا.

إذنْ، هذه رواية صَوَّرَ فيها صاحبها شيئًا متَّصِلًا بالحجّ، ويقفنا عنوانها على الآصرة الَّتي تَصِل الحُجَّاج الَّذين يقصدون البيت العتيق وطائفة المطوِّفين، وأقرب وصْف لهذه الطَّبقة مِنَ المكِّيِّين أنَّهم يُشْبِهون «المرشدين السِّياحيِّين» أولئك الَّذين يستقبلون السُّيَّاح ويرشدونهم إلى مواقع الاستجمام والنُّجْعة، ويهيِّئون لهم المنزل، والطَّعام، والمركبة، فـ»المطوِّفون» يستقبلون الحُجَّاج ويُهيِّئون لهم المسكن، والمركبة، والطَّعام، والماء، لقاء أجرٍ متَّفقٍ عليه، مِنْ قَبْلُ، بين الحاجّ والمطوِّف، ومنذ يُتِمُّ الحاجّ نُسُكه، ويؤوب إلى بلاده، يفكِّر «المطوِّفون» في موسم الحجّ القادم، وبعد أن يخلدوا، قليلًا، إلى الرَّاحة، نراهم يضربون في الأرض يُغْرون المسلمين بالحجّ، تحملهم السُّفُن إلى بلاد بعيدة، ويقطعون الفيافي، ويرقون الجِبال، وينحدرون في الأودية، يحدوهم الأمل بموسمٍ يتاح لهم فيه عددٌ وافرٌ مِنَ الحجيج، وكان مِمَّا استقرَّ عليه العُرْف والعادة، أن تكون «فاتحة» الكِتاب ميثاقًا بين الحاجّ والمطوِّف، يُؤكِّدان بها «الصَّفقة»، ويتلقَّاه مَنْ نَوَوْا أداء الشَّعيرة محتفلين، ويكفيهم أنْ حَلَّ في بيوتهم رِجالٌ مِنْ وطن الرَّسول – صلَّى الله عليه وسلَّم – وكان أولئك المطوِّفون يُقَدِّرون، إذا سالمهم الزَّمان، النَّعيم الَّذي سيصيبونه مِنْ وراء أولئك الحجيج، وليس للمكِّيِّين، قبل أن يفيء الله – تبارك وتعالى – على البلاد بالنِّفط الَّذي تَفَجَّر في باطن الأرض، مِنْ مورد إلَّا «تطويف» الحجيج، وإلَّا انتظار «الصُّرَّة»، وصدقات المحسنين مِنَ ملوك المسلمين وأثريائهم!

لكنَّ أحوال المكِّيِّين قدْ تَبَدَّلَتْ. عرفوا التَّعليم الحديث، واتَّصلوا بالثَّقافة الحديثة، وتقلَّبتْ مكَّة المكرَّمة في حياةٍ تباين ما كانتْ عليه في القرون الخوالي، ومَسَّ أهلَها شيء كبير مِمَّا أَلَمَّ بها، فإذا بطبقة جديدة مِنْ شُبَّانها يزهدون بما نُشِّئوا عليه، وبات القديم موضع التُّهمة والنَّقد والتَّبكيت، وكان عليهم أن يدركوا أنَّ مدينتهم القديمة آنَ لها أنْ تتبدَّل، وكان عليهم أن ينظروا في قديمها الَّذي اعتادتْه، فيغيِّروه: التَّعليم، والاقتصاد، والعُمران، والخِطَط، وكلّ شيء، وكان على أبناء «البيوت العريقة» أن يعيدوا النَّظر في ما ورثوه مِنْ قديم المِهَن، وكانتِ «الطِّوافة» أوَّل ما ينبغي لهم أن يغيِّروه وينقضوه.

وأوَّل ما يلقانا مِنَ الرِّواية ناحية «سوق اللَّيل»؛ تلك المَحَلَّة المسامتة للحرم الشَّريف، حيث «حراج العصر» المُطِلّ على الشَّارع العامّ، تكتنف بَرَحَته «قهوتان متقابلتان، أُعِدَّتْ فيهما مئات الكراسي الصَّغيرة مِنَ السَّعف الخشن المجدول ليصطفَّ عليها رُوَّاد الحراج مِنْ باعة أوْ مشترين يستعرضون الموجودات الَّتي ينادي عليها الدَّلَّالون بأصوات صارخة تضجّ بها البَرَحَة ضجيجًا لا يُطاق»، وكانتْ إحدى القهوتين، وهي «قهوة العَمّ سليمان»، خاصَّةً، مقصد الرُّوَّاد الَّذين يَغْشَوْن «الحراج»، وهي على شيء مِنَ النَّظافة، فصاحبها يُعْنَى بأرضها، كنسًا ورشًّا، ويطيب لجماعة مِنَ «المتبطِّلين» ارتيادها، يُلْقُون بأجسادهم على كراسيِّها، لا يلوون على شيء، وليس لهم مِنْ تسلية إلَّا صراخ الدَّلَّالين، يتحيَّنون ساعة يُقْبِل عليهم العمُّ سليمان بفنجان القهوة، فيرشفونه، وهم يتابعون، في لَذَّةٍ، ما انطوى عليه حديثه مِنْ نُكْتةٍ وطُرْفةٍ.

كأنَّما أراد السِّباعيّ أن يُصَوِّر مبلغ ما انتهتْ إليه تلك النَّاحية في مكَّة المكرَّمة مِنْ فراغ وتبطُّلٍ، وكأنَّ أولئك النَّاس الَّذين صَوَّرتْهم روايته أحسُّوا ما هُمْ فيه مِنْ فراغ، وإنْ لمْ يُحْسِنوا التَّعبير عنه، واستناموا إلى حياة راتبةٍ فارغةٍ، يقصدون قهوة العَمّ سليمان، ضحوة كلِّ يوم، يشربون الشَّاي والقهوة، ويرمون بأسماعهم إلى صُراخ دلَّالي الحراج، فإذا امتدّتِ الشَّمس واشتدَّتِ الهاجرة أقفرتِ القهوة مِنْ رُوَّادها، في حياةٍ أقلّ ما يقال فيها: إنَّها فارغةٌ مِنَ النَّشاط، لا تبعث على شيء سوى النَّوم والخمول، حتَّى إذا انتهى إلينا ذلك الشُّعُور بالتَّبطُّل والفراغ، أخذ بنا أحمد السِّباعيّ إلى ناحية في القهوة، فإذا «حسن» – بطل الرِّواية – سليل «بيت مِنَ البيوت العريقة في الطِّوافة» – يفكِّر في موسم الحجّ الَّذي انتهى منذ أسبوعين، وليس له مِنْ هَمٍّ سوى هذه المهنة الَّتي آلتْ إليه مِنَ الآباء والأجداد، وما يعود عليه مِنْ أرباح لنْ تقوم بأمره إلَّا إلى أمد محدود.

بارح حسن القهوة مكدود الذِّهن، حيران أسفًا، وخلَّفَ مكانه لُفافةً محزومةً عثر عليها العمّ سليمان، وعرف أنَّها تخصُّ المطوِّف الشَّابّ، وإذا فيها أوراق ماليَّة وأخرى خصوصيَّة، وما إن انتهى مِنْ قهوته حتَّى سعى إلى بيت المطوِّف، وبعد أن تسلَّمها حسن، دار بينه وبين صاحب القهوة حديثٌ، عليه قوام الرِّواية كلِّها، وكانتْ غاية المطوِّف الشَّابّ أن يهتدي إلى إجابةٍ عنْ سؤال أرِقَ له اللَّيالي الطِّوال وشغله عمَّا حوله: هل الطِّوافة مهنة كغيرها مِنَ المهن، تقوم بأمر أهلها، وتكفيهم الحاجة؟ لمْ يظفرْ مِنْ حديث العَمّ سليمان، إلَّا بعبارة «علاقة أجاويد»، وصف فيها حاله هو، لَمَّا أنشأ قهوةً، بعد أنْ كان صاحب «فُرْنٍ» يُدِرُّ عليه رزقًا واسعًا، وقال له: إنَّ صاحب القهوة – وإنْ شئتَ النَّادل – يتحيَّن جُودَ مرتاديها، فعسى أن يزيدوه هللةً أوْ هللتين! ويشرح السِّباعيّ هذه العبارة فيقول: «علاقة الأجاويد: هو الرَّجُل الَّذي يتفضَّل أجاود النَّاس وكرماؤهم عليه بعطاياهم فيكون كعلاقة منوطة بهم، وهي كناية شائعة في اللُّغة العامِّيَّة بالحجاز».

يغيب العمُّ سليمان، ولا نُمْسِك له بأثر في الرِّواية، لكنَّ عبارته البليغة «علاقة أجاويد»، لمْ تكنْ لِتُصَوِّر حاله هو وعيشه، وحَسْبُ، لكنَّها كانتْ تُصَوِّر حال أولئك «المطوِّفين» الَّذين أدرك حسن أنَّ مِهنتهم هذه إنَّما يعيش أهلوها على ما يتفضَّل به الحجيج عليهم، وأدرك، مِنْ فوره، أنَّ «الطِّوافة» ليستْ مهنةً، لكنَّها «علاقة أجاويد»، لأنَّ المهنة تأبَى على صاحبها أن يعيش على إحسان المحسنين، وأن يستذِلَّ لهم حتَّى يشفقوا عليه ويعطفوا، وأنَّها ليست «مهنة» تلك الَّتي لا تكفي أصحابها إلَّا أشهرًا ذوات عدد!

والحقُّ أنَّ الرِّواية أفلحتْ في تصوير ما آلتْ إليه مهنة «الطِّوافة»، في تلك المُدَّة، مِنْ ذِلَّة أهلها وهوانهم على النَّاس، وليس على المطوِّف حتَّى يعيش، وتعيش مِنْ ورائه أسرته، إلَّا أن يضرب في أرض الله الواسعة، يُبْرِمُ العهود والمواثيق بين حُجَّاج «محتمَلين» للموسم القادم، ولمْ يدركِ «المطوِّفون» أنَّهم يحدِّثون مجتمعات حديثة بمفردات قديمة، وأنَّ مهنتهم كانتْ قد بلغتْ مِنَ العجز والتَّأخُّر ما يوجب تحديثها والنُّهوض بها، وكان عليهم، قبل كلِّ شيء، أن يتخلَّصوا مِنْ «علاقة الأجاويد» الَّتي تَصِل ما بين الحُجَّاج والمطوِّفين.

كان أحمد السِّباعيّ أديبًا روائيًّا، وكان «مطوِّفًا»، وكان عليه أن يبثَّ في أوصال مهنة الآباء والأجداد ما يقوِّيها، ويحميها، ويكفل لمنتحليها «العِزَّة» و»الكرامة»، وأنشأ، لهذه الغاية، يضع الكُتُب والفُصُول والمقالات؛ وأنشأ لهذه الغاية كِتابًا في المهنة دعاه المرشد إلى الحجّ والعُمْرة، وإذا بالأديب الرِّوائيّ السَّاخر الهازل، يغدو فقيهًا يشرح لحُجَّاجه أركان الحجّ وسُنَنه ومستحبَّاته ومحظوراته، ومرشدًا سياحيًّا يُزَيِّن لهم زيارة المواقع والآثار في مكَّة المكرَّمة والمدينة المنوَّرة، ويُعَرِّفهم بإدارات الحجّ، والصِّحَّة، والإسعاف، والأمن! حتَّى إذا استوفَى كلَّ تلك الأمور، نراه ينشئ في الحجّ وفي أبناء مهنته مِنَ المطوِّفين «رواية»، وإذا بهذه الرِّواية تستصرخ «حَفَدَة المطوِّفين» فعسى أن يستنقذوها وينتشلوها مِنَ الدَّركة الَّتي هوتْ إليها.

لمْ يشأْ أحمد السِّباعيّ أن يَجْبَه «المطوِّفين» بنقداته الحادَّة، ولمْ يُرِدْ أن يقول للشُّبَّان مِنْهم، وقدْ أَيِسَ مِنَ الشُّيوخ: إنَّ مهنتكم هذه الَّتي تَشْمخون بأنوفكم بها، والَّتي بوأتْكم مقام الأعيان في مجتمع مكَّة المكرَّمة تُوشِك أنْ تُشْبه مِهنًا أخرى تقوم على «علاقة الأجاويد». لمْ يُرِدْ أن يَهُزَّ ما تواضعوا عليه، فغايته الَّتي سعى إليها أن يقول لهم قولًا ليِّنًا، وأن يُرْشدهم – كما أرشد الحُجَّاج مِنْ قَبْلُ – إلى الطَّريق الَّذي يرتقي بهذه المهنة، متى سلكوه، فكان له في «الرِّواية» مندوحةٌ عن الصِّراع والعِرَاك، ولعلَّه استذكر روايته فكرة، وفُصُوله الَّتي اصطنع لنفسه فيها اسم فتاة حجازيَّة تدعو إلى تعليم الفتيات، فأدرك أنَّ بوُسْعه أن يبلغ بـ»الأدب» ما لا يبلغه بـ»الكلام»، وما عليه إلَّا أن يكتب «رواية»، وأن يُجْرِي على لسان بطلها حسن ألوان الإصلاح الَّذي يريده لهذه المهنة، ويكفيه أنْ بالغ في تصوير حياة الذُّلّ والمسكنة الَّتي كان عليها «المطوِّفون»، حتَّى إنَّ المحسنين يُؤْثرونهم بزكاة أموالهم، بعد أنْ أُوْصِدتْ الأبواب في وجوههم في البلاد الَّتي شَدُّوا الرِّحال إليها، طمعًا في الحجيج، وكأنَّما كان عليهم حتَّى يرتزقوا مِنْ مهنتهم هذه أن يدمنوا قرْع الأبواب، فإمَّا فُتِحَتْ لهم، وإمَّا أُغْلِقَتْ في وجوههم، فإذا ما دخلوا بيوت مَن يرجون حجَّهم، أصابوا فيها شيئًا مِنَ الطَّعام، وهُيِّئَ لهم موضع حقيرٌ ينامون فيه، حتَّى يجأر حسن – وربَّما السِّباعيّ نفسه – بالشَّكوى فيقول:

اللَّهُمَّ إنَّه أمرٌ لا يُرضيك! فهذه مِهَن النَّجَّارين والحَدَّادين والصَّبَّاغين والطَّبَّاخين لا يتقاضاهم السِّير إلى بيوت زبائنهم. فما بالي أُبْتَذَل في سبيل هذه المهنة؟ وأفرض نفسي على بيوت النَّاس؟ كما يفرضها أبناء السَّبيل والمنقطعون!

أرادتْ رواية مطوِّفون وحُجَّاج أنْ تقول شيئًا: أنْ تَسُوق الشَّاهد والمَثَل على الحِطَّة الَّتي هَوَتْ إليها مهنة «الطِّوافة»، وكان أحمد السِّباعيّ، كعادته، داعية إصلاح، كان يدعو ويُلِحُّ في الدَّعوة إلى أنْ لا تُلْقِي الدَّولة ولا المجتمع ثِفَلهما على ما يجود به الحجيج، وكان يرى في الصِّناعة، والتِّجارة، وضُرُوب الاقتصاد ما يَحُول دون التَّعلُّق بما يُفْضِل به الحُجَّاج، وليس عدلًا أن تتحيَّن البلاد موسم الحجّ ليعيش المجتمع مِنْ فيئه، وكان يريد المطوِّفين على أن يتخلَّصوا مِن استجداء الحاجّ، أنْ لا يَحْنوا رؤوسهم لأحد، وكان يغيظه أن يسمع أبناء مهنته يتذلَّلون وتخرج مِنْ أفواههم هذه العبارات الذَّليلة: «ربّنا يزيد خيرك، ولا يحرمنا مِنْك. افتحْ بيتنا. ربّنا يفتح بيتك»! وكان يودُّ لوْ أنَّ كلمات العطف والشَّفقة تلسعهم بسِيَاط الذُّلّ والمهانة.

كأنَّما كان أحمد السِّباعيّ يستعيد ذكرى «الرِّواية العربيَّة» في إبَّان نشأتها، ذلك أنَّ العرب اتَّخذوا «الرِّواية» لغير ما غاية؛ اتَّخذوها تَلَهِّيًا ومُتْعةً، يُسَوِّقون بها الصُّحُف والمجلَّات، وأرادها نفرٌ مِنْهم سبيلًا إلى الإصلاح، فكانتْ «آلة» المصلحين الدِّينيِّين والاجتماعيِّين في عصر نشأتها، كما كان «القَصَص» آلة الوُعَّاظ والمُذَكِّرين في تاريخنا القديم، قبل أن تُصْبِح «الرِّواية» فنًّا يُراد به المُتعة والجَمَال، مهما انطوتْ على منازع في الفكر والإصلاح، وليس مِنْ غاية لأحمد السِّباعيّ «الأديب» و»المطوِّف» إلَّا إصلاح مهنة «الطِّوافة» والأخذ بأيدي «المطوِّفين»، فكانتْ مطوِّفون وحُجَّاج «قِناعًا» لما يريده، وكأنَّما أراد أن يُنْهِي إلى الحكومة – قبل المطوِّفين – أنْ لا حَلَّ لما آلَ إليه أمر الطِّوافة إلَّا بتلك الأفكار الَّتي نَثَرَها في خاتمة روايته، أمَّا أبناء مهنته مِنْ طائفة «المطوِّفين»، فحَسْبُه أن يُتِمَّ روايته بهذه الكلمة، فعسى أنْ تبعث فيهم العِزَّة والكرامة: «إذا أَلِفْتَ الهُون استمرأْتَه كما يستمرئ شارب الحنظل مرارته إذا أدمنه»!

صحيفة مكة 1438/11/29هـ