مكتبة الحجّ
طغتِ الرِّحلة الحجازيَّة على كلِّ ما اتَّصل بثقافة الحجّ، فإنْ أراد أحدٌ بيان تلك الثَّقافة فليس سوى تلك الرِّحلات، وظُنَّ أنَّ الأُمَّة لمْ تنتِجْ شيئًا يباين ما اعتدْناه في تلك الكُتُب، وذلك طبيعيٌّ إذْ إنَّ ما انطوتْ عليه كُتُب الرِّحلة الحجازيَّة مِنْ ملامسة النَّفس الإنسانيَّة، في شوقها وتوقها إلى الدِّيار المقدَّسة، كلَّما تقلَّبتِ الرِّحلة في المشاقّ والصِّعاب، وكلَّما حفلتْ بالعجيب والغريب = رَغَّبَ فيها القُرَّاء، فظنَّها نفرٌ مِنْهم كلَّ ما في الحجّ مِنْ ثقافة.
ولا مِراء في أنَّ كُتُب الرِّحلة الحجازيَّة فيها مِنْ ضروب المتعة ما يجعلها حقيقةً بأنْ يُظَنَّ بأنَّها كلُّ شيء في أدب الحجّ وثقافته، لكنَّ المؤرِّخ وعالم الاجتماع وعالم الأدب يظفرون فيها بمسائل لا تُظْفرهم بها كُتُب التَّاريخ والاجتماع والدِّين، بلْ إنَّ جمهرة مِنَ الرَّحَّالين عالجوا مسائل في الفقه هي أَمَتُّ صِلةً بالنَّوازل الَّتي تعترض جماعة المؤمنين، ومِنْهم مَن التفت إلى حوادث في التَّاريخ، حتَّى باتتْ رحلته مرجعًا وحيدًا فيها، أمَّا عالم الاجتماع فلا شكَّ أنَّه سيخرج مِنْها بوفرة مِنَ العادات والتَّقاليد الَّتي لا يجدها في سواها.
ومع ذلك، فليستْ كُتُب الرِّحلة الحجازيَّة كلَّ ما انتهى إلينا مِنْ ثقافة الحجّ، وإنَّها لتحتلُّ جُزْءًا مِنْ تلك الثَّقافة، مهما كان واسعًا عظيمًا.
وبِوُسْع الباحث أن يعتدَّ الحجّ «مؤسَّسةً» تامَّة الأركان، تَمَسُّ أوجه الحياة كافَّةً، فالحجّ رُكْنٌ مِنْ أركان الإسلام، لكنَّ أداءه لا يَتِمُّ إلَّا في محيط اجتماعيّ، وإنَّه ليتطلَّب، بعد النِّيَّة، قُدْرةً، ومِنْ تلك القُدْرة الاستطاعة في الصِّحَّة والمال، ومِنْ بعدهما الرَّاحلة، والرُّفقة، والطَّريق، وكلَّما تَقَدَّمَ بنا الزَّمان زادتِ التَّكاليف، على نحو ما عَرَفَه الحجّ في عصرنا الحاضر، لكنَّنا، لو استأنسنا بالتَّاريخ، لرأيْنا أنَّ قافلة الحجيج ليستْ بالأمر اليسير الهيِّن، بلْ إنَّها أصبحتْ جُزءًا مِنْ أعمال الدَّولة – أو الدُّوَل الَّتي تجتاز بها – فإذا تخيَّلْنا تلك القافلة، وهي تعبر الصّحاري والوديان والمُدُن، في طريقها إلى الدِّيار المقدَّسة، حتَّى كأنَّنا نراها رأي العين = أدركْنا مِنْ أحوالها فوق ما لمْ يَحُكَّ في خواطرنا، فالقافلة لا تسير إلَّا بأمير، ولا يحفظ أمنَها إلَّا قُوَّةٌ مِنَ الجنود، ولا صِحَّة الحجيج، إلَّا أطبَّاء وصيادلة وممرِّضون، وإنَّها لتحتاج إلَّا صهاريج متحرِّكة مِنَ الماء العذب للشُّرب والاغتسال، وفي القافلة قاضٍ، ومُفْتٍ، وفقهاء، وأئمَّةٌ، ومؤذِّنون، ووُعَّاظٌ، ومُذَكِّرون، ومُنشِدون، وشُهُودٌ عُدُول، وطلائع، وطبَّاخون، وعَمَلَةٌ، وسُوَّاسٌ، وبياطرة، وفيها مَن يتولَّى غَسْل الموتى، ودفنهم.
كلُّ ذلك وغيره يتَّصل بالقافلة، وحدها، ساقتْ إلينا كُتُب الرِّحلات الحجازيَّة قَدْرًا واسعًا مِنْ أخبارها، فلمَّا كان القرن العاشر الهجريّ وضع العلَّامة الجزيريّ الحنبليّ كِتابًا لمْ يُسْبَقْ إليه دعاه الدُّرَر الفرائد المنظَّمة في أخبار الحاجّ وطريق مكَّة المعظَّمة، وهو كِتاب اتَّسَعَ لأُمور كثيرةٍ لا يكاد يُحْصيها العَدُّ، على أنَّ أظهر ما فيه أنَّه اختصَّ بقافلة الحجيج، فإذا مضينا في قراءته عرفْنا أنَّ هذه القافلة إنَّما هي مدينة تمشي على الأرض حتَّى تبلغ الأراضي المقدَّسة في الحجاز، وأنَّ مواطني تلك المدينة هُمْ كلُّ الحجيج الَّذين ساروا في رِكابها، وأدركْنا أنَّ الرِّحلة إلى الحجّ ليستْ شيئًا سهلًا يسيرًا.
أَلَّفَ المسلمون في مسائل مختلفات مِمَّا يتَّصل بالحجّ؛ وضعوا الكُتُب والرَّسائل في الفقه والمناسك، ومحلُّ ذلك مدوَّنات الفقه، فهي معروفة معهودة، لكنَّ هذه الشَّعيرة قوامها شعائر وحُدُود، لا يَتِمُّ الحجّ إلَّا بها، هي الَّتي تُعْرَف بـ»مواقيت الحجّ»، وعلى أنَّ معرفتها هي مِنْ أُمور الدِّين، فإنَّ تحديد مواقعها، وتعيين المسالك والدُّرُوب إلى البيت العتيق، أخرج لنا كُتُبًا ما كانتْ لتكون لولا الحجّ، ويكفي أن يُشَار، في عُجالة، إلى كِتاب المناسك، أو الطَّريق لإبراهيم الحربيّ – كما يقول الشَّيخ حمد الجاسر – أو ابن وكيع – كما يُرَجِّح الدَّكتور عبد الله الوهيبيّ، ويَدُلَّنا ما انتهى إلينا مِنْ هذا الكِتاب على مِقدار عناية المؤلِّف المسلم بأمر المسالك والدُّرُوب المؤدِّيَة إلى مكَّة المكرَّمة، وكان لنا منْ ذلك درايةٌ بالمُدُن، والبلدات، والقُرَى، والصَّحاري، والوديان، ومواقع المياه، والأسبلة، والعيون، الَّتي يَمُرُّ بها الحاجّ إلى أقدس مطاف، بلْ إنَّ نفرًا مِنَ المؤرِّخين يجعلون الحجَّ مِنْ أسباب ترقِّي عِلْم البلدانيَّات والمسالك والممالك لدى المسلمين، وفي كُتُب الرِّحلات الحجازيَّة، وفي كُتُب البلدان، تعيينٌ لتلك المسالك والدُّرُوب، ومِنْها صِفة جزيرة العرب للحسن بن أحمد بن يعقوب الهمْدانيّ، وفي آخر الكِتاب قصيدة طويلة لأحمد بن عيسى الرَّداعيّ اليمانيّ عَيَّنَ فيها المسالك مِنَ اليمن حتَّى مكَّة المكرَّمة، وقَدَّمَ لنا العلَّامة الشَّيخ حمد الجاسر عُرُوضًا وملخَّصاتٍ ثمينةً لجمهرة مِنَ الكُتُب والأراجيز الَّتي عُنِيَتْ بطُرُق الحجّ ودُروبه، وجمع العلَّامة إسماعيل بن عليّ الأكوع طائفة مِنَ الأراجيز الَّتي انطوتْ على وصْف دُروب الحجّ ومنازله مِنَ اليمن إلى البيت العتيق في مكَّة المكرَّمة، بلْ إنَّنا نقف في كِتاب أحاديث عن الرَّكب المغربيّ للعلَّامة محمَّد المنونيّ على كلام واسع عنْ الطُّرُق الَّتي يسلكها الحاجّ المغربيّ إلى الدِّيار المقدَّسة، وكلُّ تلك الكُتُب وسِواها يجعل الحجّ، حقًّا، «مؤسَّسةً»، رآها العلَّامة المغربيّ الجليل عبد الهادي التَّازيّ أعظم ما قَدَّمه الإسلام للمسلمين:
«لقدْ كان الحجّ أكبر وأعظم وأهمّ مؤسَّسةٍ قدَّمها الإسلام للمسلمين أينما كانوا وحيثما كانوا، أعظم مؤسَّسة بما تشتمل عليه مِنْ تنوُّع زادٍ. كان الحجّ أبرز رسالة موجَّهة إلينا لمعرفة الآخَر، ولاكتشاف الآخرين لحوار الحضارات. مهما كتب النَّاس سواءٌ كانوا مسلمين أوْ غير مسلمين، فإنَّهم لن يَصِلوا إلى استجلاء جميع جوانب هذه المؤسَّسة الحضاريَّة الكبرى».
المصدر : صحيفة مكة 1438/11/27هـ