ابن جبير الأندلسيّ.. الكأس الأولى والحجَّة الأولى
«الكأس الأولى» مِنْ أروع المقالات الَّتي انطوى عليها كِتاب النَّظَرات لمصطفى لطفي المنفلوطيّ، عالَجَ فيها، بأسلوبه البيانيّ الرَّفيع، قصَّة صديقٍ أدمن الخمر منذ احتسى كأسها الأولى ولمْ يُقْلِعْ عنها، فلمَّا أوردتْه المهالك جعل يندب حظَّه ويلعن تلك الكأس، فلولاها ما أشرف على الهلاك وما تَحَيَّنَ ساعة الموت، بعد أنْ أصبح إِلْف الحانات ونديم المَشَارب، وبعد أن اقتاده الشُّرَط، مَرَّةً بعد مَرَّة، إلى السِّجْن، فإذا ما سأله بعض الصَّديق عنْ حاله أجاب: إنَّها الكأس الأولى، فـ«لولا الكأس الأولى ما هلكْتُ، ولا شكوتُ الَّذي شكوتُ، ولولاها ما عافَنِي الأصدقاء، ولا زَهِدَ فِيَّ الأقرباء، فكُنْ أنتَ وحدك صديق السَّرَّاء والضَّرَّاء»!
تَذَكَّرْتُ«الكأس الأولى»، وتَذَكَّرْتُ المنفلوطيَّ، وتَذَكَّرْتُ كِتاب النَّظَرات، لَمَّا رجعتُ إلى الرَّحَّالة ابن جُبَيْر الأندلسيّ ورحلته الحجازيَّة. والحقُّ أنَّني قلَّما قرأْتُ رحلة في القديم والحديث إلَّا وكان ابن جُبَيْر مَلاذًا لصاحبها ومرجعًا، وكأنَّما استوفَى ابن جبير الأندلسيّ الكلام عنْ مكَّة المكرَّمة، والمدينة المنوَّرة، وكأنَّما رَضِيَ الرَّحَّالون، مِنْ بعده، عنه، فاتَّخذوه إمامًا لهم، واقتفوا أثر رِحلته، وساروا على نهجه، فإذا أعوزهم أمر، فَزِعُوا إليه يقتبسون كلامًا له، فعل ذلك غير رحَّالة مِنْ جِلَّة الرَّحَّالين، بلْ إنَّ ابن بطُّوطة استعان بسلفه الأندلسيّ، فكان لسانه الَّذي يُسْعفه كلَّما استغلق عليه الكلام، وعجز عن الوصف، حتَّى لَيصحّ القول: إنَّ هذه الرِّحلة الجليلة أضحتْ قارَّةً في كلِّ رحلةٍ حجازيَّةٍ، منذ ذلك العهد البعيد، وحتَّى عصرنا الحاضر.
كان أبو الحسين محمَّد بن أحمد بن جبير الكِنانيّ (540-614هـ) مِنْ أهل بَلَنْسِيَة، سَمِعَ مِنْ أبيه، وأخذ عن الأشياخ القراءات، «وعُنِيَ بالأدب فبلغ الغاية فيه، وتَقَدَّمَ في صناعة القريض» - كما جاء في نفح الطِّيب للمقَّريّ التِّلمسانيّ - وكان معدودًا في علماء الأندلس، في الفقه، والحديث، والمشاركة في الآداب، كما ينقل عنْ لسان الدِّين بن الخطيب. وعلى أنَّ للرَّجُل شِعْرًا وافرًا عُنِيَ به بعض العلماء، فإنَّه عُرِفَ برحلته، حتَّى دَلَّتْ عليه واشتُهِر بها.
وكان مِنْ خبر هذه الرِّحلة أنَّ ابن جبير كَتَبَ، في أوَّل أمره، لأبي سعيد ابن عبد المؤمن، صاحب غرناطة، فاتَّفق أن استدعاه لأن يكتب، وكان أبو سعيد على شرابه، فناوله كأسًا، فأظهر أبو الحسين الانقباض، وقال له: «يا سيِّدي ما شربتُها قَطُّ»، فأقسم عليه ابن عبد المؤمن، وعَزَمَ عليه أن يشرب مِنْها سبعًا، فشرب سبع أكؤس، فلمَّا انصرف إلى داره أحسَّ النَّدم، وأضمر في نفسه التَّكفير عنْ تلك الكبيرة بالحجّ إلى البيت العتيق، وكان انفصاله مِنْ غرناطة أوَّل ساعة مِنْ يوم الخميس الثَّامن لشهر شوَّال سنة ثمانٍ وسبعين وخمسمئة للهجرة، وابتدأ بتقييدها يوم الجمعة المُوفي ثلاثين لشهر شوَّال المذكور.
كان فضل الله – تبارك وتعالى – على ابن جبير عظيمًا، إذْ لمْ يُصْبِحْ مثل صاحب المنفلوطيّ مدمن خمر مواظبًا عليها، حتَّى تحاماه الصَّديق والخدين، وحتَّى أوردتْه المَهَالك، وبينما أعقبتِ
«الكأس الأولى» أكؤسًا أخرى، وتراختْ عزيمة مغفَّل النَّظرات، اتَّقى ابن جبير تلك الكأس الآثمة، مِنْ فوره، وأضمر تكفيرها بالحجّ إلى المسجد الحرام، وبينما حسب صاحب المنفلوطيّ أنَّ «الكأس الأولى»
تلك كانتْ حُلْوةً لذيذةً، فأدمن احتساءها، وعَنَا لها، اطَّرحها ابن جبير وعافها، وأدمن الحجَّ إلى البيت العتيق، والسَّيْر على خُطا إبراهيم الخليل – عليه السَّلام - فحَجَّ ثلاث مرَّاتٍ، ومات في الإسكندريَّة، في طريقه أوبته إلى وطنه، فكانتِ «الحجَّة الأولى» مدعاةً لإدمانه الحجّ إلى البيت العتيق، وتَذّوُّق لَذَّة المُثُول في تلك الأمكنة الشَّريفة، وأَحَسَّ حلاوتها، حتَّى إنَّه لَيَحْتمل في سبيلها فراق الأهل والمال والولد والوطن.
يُخْبِرنا مؤرِّخو الرِّحلات الحجازيّ أنَّ ابن جبير كان صاحب أوَّل رحلة حجازيَّة مذكورة في التَّاريخ، ويقولون: إنَّ رحلة لابن العربيّ المالكيّ كانتْ أسبق، لكنَّها ضاعتْ باعتراف المؤلِّف نفسه، ولمْ يبقَ مِنْها إلَّا شذراتٌ يسيرةٌ أثبتها الفقيه المالكيّ في أوَّل كِتابه قانون التَّأويل، وحَلَّتْ رحلة ابن جبير محلَّها في سياق السَّبق والأوَّليَّة، فكانتْ فاتحة الرِّحلات الحجازيَّة العربيَّة، وعُدَّتْ «طليعة أدب جغرافيّ متميِّز – بالمعنى الفنِّيّ لا بالمعنى العامّ – لكلمة «أدب» -كما يقول العلَّامة إحسان عبَّاس- وكانتْ، للرحَّالين مِنْ بعده، أوَّل نبع يَرِدُونه، بل «الكأس الأولى» الَّتي احتسوها، وكانتْ رحلته «المعلَّقة الأولى»، وكأنَّما هو «امرؤ القيس»، أوَّل مَنْ وَقَفَ واستوقفَ، وأوَّل مَنْ بكى الدِّيار، وكان أبرع «الرَّحَّالين» تشبيهًا.
قال العلَّامة عبد الهادي التَّازيّ في كِتابه رحلة الرِّحلات، مكَّة في مئة رحلة مغربيَّة ورحلة: إنَّ الرَّحَّالين المغاربة والأندلسيِّين أُوْلِعُوا بتشبيه الكعبة المشرَّفة بـ»
العروس»، وشاع ذلك في غير رحلة. وأحسب أنَّ الرَّحَّالين إنَّما اتَّبعوا في هذا التَّشبيه البديع ابنَ جبير، وقفَ على تلك «البَنِيَّة» الشَّريفة، فقال فيها: «فألفَيْنا الكعبة الحرام عروسًا مجلوَّةً مزفوفةً إلى جَنَّة الرَّضوان محفوفةً بوفود الرَّحمن»، وأنهى إلى قارئه تلك اللَّوعة الَّتي استولتْ عليه لَمَّا شاهد الكعبة العروس وهي ترفل في زينتها:
«دخلْنا مكَّة، حرسها الله، في السَّاعة الأولى مِنْ يوم الخميس الثَّالث عشر لربيع المذكور، وهو الرَّابع مِنْ شهر أُغشت، على باب العُمرة، وكان إسراؤنا تلك اللَّيلة المذكورة، والبدر قدْ ألقى على البسيطة شعاعه، واللَّيل قدْ كشف عنَّا قِناعه، والأصوات تَصُكُّ الآذان بالتَّلبية مِنْ كلِّ مكان، والألسنة تَضِجُّ بالدُّعاء وتبتهل إلى الله بالثَّناء، فتارةً تشتدُّ بالتَّلبية، وآونةً تتضرَّع بالأدعية. فيا ليلة كانتْ في الحُسْن بيضة العُقْر، فهي عروس ليالي العُمْر وبِكْر بُنَيَّات الدَّهر».
كانتْ رحلة ابن جبير الأولى في الزَّمان، وكانتِ الأولى في التَّقَصِّي والبَسْط والتَّتبُّع، واستوعبتْ وَصْف ناحية عظيمة مِنْ ديار الإسلام، في تلك المُدَّة، أمَّا مكَّة المكرَّمة، وأمَّا الحجاز، فقدِ امتازتْ هذه الرِّحلة بما لا يوجد في سِواها منْ كُتُب التَّاريخ والبلدانيَّات، حتَّى عُدَّ ما جاء فيها عن البلد الحرام مرجع الباحثين والمؤرِّخين، ومَلاذ قُرَّاء أدب الرِّحلة إلى الحجاز، والحقُّ أنَّ كلَّ ما في رحلته مختار، ويعجبني مِنْ هذا الرَّحَّالة الأندلسيّ البلنسيّ هذه الفقرة الَّتي غارتْ في وجداني منذ قرأتُها، وكأنَّما استوفَى فيها شخصيَّة مكَّة المكرَّمة:
«هذه البلدة المباركة سبقتْ لها ولأهلها الدَّعوة الخليليَّة الإبراهيميَّة، وذلك أنَّ الله عَزَّ وجَلَّ يقول حاكيًا عنْ خليله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: {فاجعلْ أفئدةً مِنَ النَّاس تهوي إليهم، وارزقْهم مِنَ الثَّمرات، لعلَّهم يشكرون} [إبراهيم: 37]، وقال عَزَّ وجَلَّ: {أولم نُمَكِّنْ لهم حرمًا آمنًا يُجْبَى إليه ثمرات كلِّ شيء} [القصص: 57]. فبرهان ذلك فيها ظاهر متَّصلٌ إلى يوم القيامة، وذلك أنَّ أفئدة النَّاس تَهْوِي إليها مِنَ الأصقاع النَّائية والأقطار الشَّاحطة. فالطَّريق إليها ملتقى الصَّادر والوارد مِمَّنْ بلغتْه الدَّعوة المباركة. والثَّمرات تُجْبَى إليها مِنْ كلِّ مكان، فهي أكثر البلاد نِعَمًا وفواكه ومنافع ومرافق ومتاجر».
كان ابن جبير رحَّالةً عظيمًا، وكان، كذلك، متأمِّلًا عظيمًا، وكان عاشقًا مولَّهًا بالبيت العتيق، معلَّق القلب بالحجاز، وبمكَّة المكرَّمة والمدينة المنوَّرة، وكان شاعرًا لا يُخْفي شِعْره تعلُّقه بتلك الأمكنة الشَّريفة:
• بَدَتْ لِيَ أَعْلَامُ بَيْتِ الهُدَى بِمَكَّةَ والنُّورُ بَادٍ عَلَيْهِ
فَأَحْرَمْتُ شَوْقًا لَهُ بِالهَوَى وَأَهْدَيْتُ قَلْبِي هَدِيًّا إِلَيْهِ
• إِذَا بَلَغَ المَرْءُ أَرْضَ الحِجَازِ فَقَدْ نَالَ أَفْضَلَ مَا أَمَّلَهْ
وَإِنْ زَارَ قَبْرَ نَبِيِّ الهُدَى فَقَدْ أَكْمَلَ اللهُ مَا أَمَّ لَهْ
• وقال مشتاقًا إلى المساجد الثَّلاثة الَّتي تُشَدُّ إليها الرِّحَال:
طَالَ شَوْقِي إِلَى بِقَاعٍ ثَلَاثٍ
لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إِلَيْهَا
إِنَّ للنَّفْسِ فِي سَمَاءِ الأَمَانِي
طَائِرًا لَا يَحُومُ إِلَّا عَلَيْهَا
قُصَّ مِنْهُ الجَناحُ فَهْوَ مَهِيضٌ
كُلَّ يَوْمٍ يَرْجُو الوُقُوعَ لَدَيْهَا
فلمَّا وَدَّعَ المدينة المنوَّرة، آخِر عهده بها، قام النَّثر مقام الشِّعْر، فكانتْ هذه الكلمات الَّتي تتصدَّع لها الأفئدة:
«وفي عشيِّ ذلك اليوم المبارك كان وداعنا للرَّوضة المباركة والتُّربة المقدَّسة، فيا له وداعًا عجبًا ذهلتْ له النُّفُوس ارتياعًا حتَّى طارتْ شَعاعًا، واستشرَتْ به النُّفُوس التياعًا، حتَّى ذابتِ انصداعًا! وما ظَنُّكَ بموقفٍ يناجَى بالتَّوديع فيه سيِّدُ الأوَّلين والآخِرين، وخاتم النَّبيِّين، ورسول ربِّ العالَمين؟ إنَّه لَموقفٌ تنفطر له الأفئدة، وتطيش به الألباب الثَّابتة المتَّئدة، فوا أسفاه وا أسفاه! كلٌّ يبوح لديه بأشواقه، ولا يجد بُدًّا مِنْ فِراقه، فما يستطيع إلى الصَّبر سبيلًا، ولا تسمع في هول ذلك المقام إلَّا رَنَّةً وعويلًا، وكلٌّ بلسان الحال يُنشد:
مَحَبَّتِي يَقْتَضِي مُقَامِي
وَحَالَتِي تَقْتَضِي الرَّحِيلَا
بَوَّأَنا الله بزيارة هذا النَّبيّ الكريم منزلَ الكرامة، وجعله شفيعًا لنا يوم القيامة، وأحلَّنا مِنْ فضله في جواره دارَ المقامة، برحمته، إنَّه غفور رحيم، جواد كريم».