الأندية الأدبيَّة.. مِنَ المِركاز إلى النَّادي الأدبيّ
نستطيع أنْ نردّ الأندية الأدبيَّة إلى حقبة ما قبل الدَّولة الوطنيَّة، وبوسْعنا أنْ نُسْهِب في الحديث فنُلِمّ في كلّ مجتمع بصفوة العلماء والأدباء، ممَّنْ ندعوهم، اليومَ، “المثقَّفين”، وبذلك الأدب الَّذي أُريدَ به ألوانه المعهودة، آنئذٍ، مِنْ شعرٍ، ومقامةٍ، وخطبةٍ، وألغازٍ، إلى آخر تلك الفنون الَّتي أُوْلِعَ به كلّ مَن أصاب شيئًا مِنْ كلام العرب وآدابهم، فاختلف إلى هذا المجلس أوْ ذاك، مِمَّنْ يتعاطى أهلوه صنعة الكلام، وكان مجتمع القوم، سواء دعوناه “ناديًا”، أوْ “مجلسًا”، أوْ ما شاء الله لنا أنْ ندعوه، صورةً لِمَا تَحَدَّرَ إلينا مِنْ ألوان الأدب والثَّقافة في العصور الخوالي.
ولن يُعيينا البحث ولا التَّفتيش إنْ أردْنا الشَّاهد والمَثَل على ما نقوله، هنا، وابحثْ في أثناء الثَّقافة العربيَّة، في كلّ أقطارها، فلنْ يعجزك الظَّفر بهذا “المجلس” أوِ “النَّادي”، في هذه المدينة أوْ تلك، وربَّما اختلفتِ الأسماء لكنَّ هيئاتها واحدة. والنَّاس، لولا اختلاف الزَّمان والمكان، إنَّما يخوضون في شأن مرسومةٍ حدوده، لن يَعْدُوَ في كلّ أحواله الأدب؛ شعره ونثره.
عرفَ العالم العربيّ الحديث ذلك، وعرفتِ الجزيرة العربيَّة ألوانًا مِنْه، قبل نشوء الدَّولة الوطنيَّة الحديثة، فلمَّا نشأتْ هذه الدَّولة، صار لهذا النَّوع مِنَ أنواع الاجتماع أسماء، أشهرها، فيما نحن بسبيله، “النَّادي الأدبيّ”، عُرِفَ في غير قُطْر في هذه الجزيرة، لكنَّه ذاع وشاع في المملكة العربيَّة السُّعُوديَّة خاصَّةً.
ويظهر لي أنَّ “النَّادي الأدبيّ” فيه مِنْ سِمات المجالس الأدبيَّة القديمة، ومعالم مؤسَّسات المجتمع المدنيّ الحديثة مشترَكات، فهو “نادٍ” يختلف إليه المشتغلون بالأدب، على اختلاف أنواعه، كما كان الأسلاف مِنَ الأدباء يغشون هذا المجلس أوْ ذاك، يطلبون السَّمَر، وينفقون ليلهم في طلب بيتٍ شارد، أوْ مثل سائر، أوْ حكمة سديدة، على أنَّ “النَّادي” فيه مِنْ هيئة مؤسَّسات المجتمع المدنيّ ملامح، نُدركها في توسُّطه ما بين الدَّولة والمجتمع، وربَّما شاء له هذا التَّوسُّط أن يكون شكلًا “هجينًا”، يُشَدّ، حينًا، إلى الدَّولة، ويُشَدُّ، حينًا آخر، إلى المجتمع المدنيّ، وربَّما كانتْ هذه “البينيَّة” مشكلة مِنْ مشكلاته الملازمة له.
على أنَّ الاسم الَّذي ارتضتْه الدَّولة والمثقَّفون لهذه المؤسَّسة “الهجين”، وهو “النَّادي”، مُثْقَلٌ برموز الماضي وأعباء التَّاريخ، وفي اللُّغة “النَّادي: المنتدَى. و- مكان مهيَّأٌ لجلوس القوم فيه، والغالب أن يتَّفقوا في صناعة أوْ طبقة. ونادِي الرَّجُل: أهله وعشيرته. وفي التَّنزيل العزيز: {فَلْيَدْعُ نَادِيَه}. (ج) أنديةٌ، ونوادٍ”.
وكما نرى فإنَّ الاسم الجديد “النَّادي” ما انفكَّ يرتبط بالمعنى القديم، على أنَّ الاسم، مهما كان شائعًا ذائعًا معمولًا به في الأدب والثَّقافة، لا يزال فيه مِنْ معناه القديم معالم وقسمات، وربَّما قُصِدَ مِنْه أن يُخَفِّف، شيئًا ما، مِنْ أيِّ معنًى يرمي به إلى حيث “التَّجمُّع” السِّياسيّ أوِ النِّقابيّ، مِمَّا هو شائع في غير قُطْر مِنْ أقطار العرب، أمَّا “النَّادي” فيكفي أن يشير إلى ذلك المعنى القديم الغائر في وجدان النَّاس، بلْ عساه لا يستجلب نظرًا، وله في “الأندية” الرِّياضيَّة الشَّاهد والمَثَل، فأولئك “يتبارون” بالكرة وألوان الرِّياضات، وهؤلاء “يتبارون” بالكلمات!
وما لنا نذهب، بعيدًا، وكلمة “نادٍ” مِنَ الكلم الشَّائع في مصطلح المشتغلين بالأدب، قبيل نشوء الدَّولة الوطنيَّة، وإنَّنا نمسك بطرف كبير مِنَ التَّاريخ، حين نجول في أثنائه، باحثين ومنقِّبين عنْ تلك المؤسَسة الحديثة في حياة أسلاف لنا، عهدهم غير بعيد مِنْ زمننا هذا، وعسانا لوْ رمْنا التَّأريخ للأندية الأدبيَّة في النَّواحي الَّتي تألَّفتْ مِنْها المملكة العربيَّة السُّعُوديَّة لعدوْنا الغاية الَّتي نُدِبْنا إليها.
ولا تكاد ناحية مِنْ نواحي الجزيرة العربيَّة تَعْرَى مِنْ أندية أدبيَّة، سواء ما أُطْلق عليها اسْم “النَّادي الأدبيّ”، أوْ ما عُرِفَ بـ “المجلس”، أوِ “المِرْكاز”، أوِ “المَقْعَد”، أوْ ما شئتَ مِنَ الأسماء الَّتي سِيقتْ للتَّعبير عنِ اجتماع القوم، لا غاية لهم إلَّا الأدب وإلَّا أنواعه الموروثة. ومِنْ قديم ما انتهى إلينا طرف مِنْ تاريخه الأندية الأدبيَّة الَّتي أَنشأها العلماء والأعيان في المدينة المنوَّرة، في أواخر العصر العثمانيّ، وأشهرها مجالس عبدالجليل برَّادة، وأحمد برزنجيّ، وإبراهيم الأسكوبيّ وأنور عشقيّ، ونقرأ، كذلك، أنَّ نفرًا مِنْ أعيان مدينة جدَّة، إبَّان الحكم الهاشميّ فيها، كانوا يقصدون ظاهرها، بإزاء البحر، فيجتمعون ويخوضون في ألوان مِنَ المكابدة الرُّوحيَّة، لا تخلو مِنْ حديث في الأدب والسِّياسة، أبى التَّاريخ إلَّا أن يقيِّد شيئًا مِنْه، حين أَلَمَّ به أمين الرَّيحانيّ في رحلته إلى جدَّة، في عهد الملك حسين بن عليّ، ملك الحجاز، آنئذٍ، واجتمع بالقوم، الَّذين حلا لهم أن يدعوا ناديهم بـ “نادي الصَّلاة”، لأنَّه إنَّما يُعَقَد ما بين صلاتَيْ المغرب والعشاء.
وربَّما احتجنا إلى صفحات طوال، وربَّما تَشَعَّبتْ بنا السُّبُل لوْ أردنا بيانًا للأندية الأدبيَّة الَّتي أنشأها الأدباء والعلماء، ويكفي أنْ نعرف أنَّ العقود الأولى مِنْ نشأة الدَّولة الوطنيَّة في الجزيرة العربيَّة كانتْ قدْ عرفتْ غير نادٍ أدبيّ، وبحسْب الأدباء أن يُجْمِعوا رأيهم على أن ينشئوا ذلك النَّادي، فيتمّ لهم ما أرادوه، وأبرز تلك الأندية الَّتي نعْرف شيئًا مِنْ تاريخها “نادي الحفل الأدبيّ للشَّباب العربيّ السُّعُوديّ المتعلِّم”، أنشأه في المدينة المنوَّرة، عام 1355هـ، عبدالقدُّوس الأنصاريّ وجماعة مِنَ الأدباء، ويكفي أن نستذكر، معًا، أنَّ المجتمع الأهليّ – وإنْ شئتَ المجتمع المدنيّ – كان له شأنه في تلك السَّنوات الَّتي لمْ تنضجْ فيها، بَعْدُ، صورة الدَّولة القابضة على مقاليد الأمور، ثمَّ إنَّ دولة ما قبل النِّفْط كانتْ قدْ ألقتْ على المجتمع الأهليّ عِبْء النُّهُوض بالمجتمع، فكان لهذا المجتمع اليد الطُّولَى في إنشاء المؤسَّسات، على اختلاف ما بينها؛ أنشأ معاهد التَّعليم، والصُّحُف، والجمعيَّات الاقتصاديَّة، وجمعيَّات القِرْش، وجمعيَّة الإسعاف الخيريّ، وكانتْ هذه الأخيرة الَّتي أُريدَ مِنْها تمريض المرضى وإسعافهم، أهمَّ نادٍ أدبيّ في السَّنوات الأولى مِنْ تأسيس المملكة العربيَّة السُّعُوديَّة، ولا يكاد يقيِّد أحدٌ طرفًا مِنْ تاريخ المؤسَّسة الثَّقافيَّة في المملكة، إلَّا ويقف عند هذه الجمعيَّة الَّتي شهدتْ قاعة محاضراتها نشاطًا ثقافيًّا عظيمًا، وكانتْ تلك الجمعيَّة الَّتي أُنْشِئَتْ في مكَّة المكرَّمة أهمَّ نادٍ أدبيّ تشهده البلاد، قبل أنْ تعرف الأندية الأدبيَّة بنحو أربعة عقود مِنَ الزَّمان، وكانتِ الجمعيَّة وكانتْ قاعتها المشهورة هِبَةً مِنْ هِبَات المجتمع الأهليّ، يومَ كان له شأن ومكانة.
المصدر : صحيفة مكة 1438/9/1هـ