صالح وأحمد جمال.. الحسُّ الوطنيُّ والطرحُ الجريءُ
•عندما يُكتب تاريخ الكلمة المقروءة في بلادنا، فإنَّه سوف يكون فيه نصيبٌ وافرٌ، ومساحة متَّسعة للأخوين صالح وأحمد جمال -رحمهما الله- وذلك من خلال إنشاء الرائد صالح بداية لصحيفة حراء عام 1377هـ، ورديفتها الندوة، بالاشتراك مع الأستاذ والصحافي المعروف أحمد السباعي، ثمَّ استقلَّ بها الأستاذ صالح عام 1383هـ، كما مثَّل إنشاء مكتبة الثقافة عام 1364هـ مع مجموعة من رجال الفكر والأدب، انعطافة هامَّة في تاريخ الثقافة في بلادنا. وأضيف بأنَّه عندما يُدوَّن تاريخ الرجال الذين يفتحون أبواب دورهم لذوي الحاجة ممَّن تنكرهم الأرض وعوالمها، وتعرفهم عوالم الغيب والأزل، فإنَّ الأخوين «جمال»، يأتيان في مقدِّمة تلك الزمرة من رجالات الوطن، فلقد كان القوم يعتبرون زكاة الجاه ممَّا يدخل في تقرُّب العبد إلى مولاه.
• ولقد عرفت أستاذنا أحمد جمال في زمن النشأة، في بلد المصطفى صلَّى الله عليه وسلم، فلقد كانت صحيفة المدينة تنشر مقالاته في صدر الصفحة الأولى، وكانت مقالاته تتَّسم بالطرح الجريء، والإيجابي، إضافة إلى الأسلوب الصحافي المتمكِّن الذي تكتب به.
ويشاء الله أنْ أنتقلَ إلى مهبط الوحي دارسًا في كلية الشريعة.. فتعرَّفتُ على مكتبة الثقافة في مقرها الجديد -آنذاك- بحي سوق الليل، وذلك بعد التوسعة السعوديَّة الأولى للحرم المكيِّ الشريف، وشاهدتُ للمرَّة الأولى شخصيَّة السيد محسن عطاس -رحمه الله- الذي كان يبدي الكثير من عطفه الأبوي إزائي، ممَّا جعلني -لاحقًا- أشركه في الدعاء، ضمن مشايخي الذين كانت تمتلئ بهم حلقات المسجد الحرام.
• ولعلِّي لا أذيعُ سرًّا إذا ما ذكرتُ -اليوم- أنَّني كنتُ أجد بعض الكتب الأدبيَّة التي تستهويني، فأخشى نفادها، وكانت المكافأة الماليَّة التي نستلمها لا تغطي مصاريف الحياة، فكيف بك وقد أدركتْك -في مبدأ حياتك وخاتمتها كذلك- حرفةُ الأدب؟! فكنتُ -بسذاجة، أو طيبة درجتُ عليها- أطلبُ من السيد «محسن» أن أستدين ثمن الكتاب، واعدًا إيَّاه بتسديد قيمته من مكافأة الشهر الذي يليه، وكان كثيرًا ما يستجيب.
ثم احتضنتني دار الرجل المفضال الوالد الشيخ عبدالله بصنوي -أسكنه الله فسيح جناته- فعرف شغفي بالكتاب، فكان يصطحبني سالكين الدرب بين الشاميَّة وسوق الليل، ويقف نائيًا من موضع المكتبة، تاركًا لي حرية اختيار الكتب التي تستهويني، ثم يدفع -جزاه الله خيرًا- من جيبه دون أن يشعرني بمَنٍّ وفضلٍ، وأنا -بعد الله، ثم بعد والدي- مدينٌ للبصنوي في الكثير.
• وفي إحدى روحاتنا -للثقافة- قدم أستاذنا أحمد بسيارته إلى موقع المكتبة، فلمح شخص الوالد البصنوي، فنزل مسرعًا من سيارته؛ ليسلِّم عليه، فما كان من الشيخ إلاَّ وأن يقدِّمني للسلام عليه، ومن ذلك التاريخ توثَّقت العلاقة بيني وبين آل جمال، حيث تعرَّفتُ على طارق، وحسن في سني البعثة الدراسيَّة بالجامعات البريطانيَّة، فوجدتهما، وإخوتهما، وأبناء عمومتهما ممَّن يسابقون إلى صنع المعروف والجميل.
• وتفضَّل -أخيرًا- الأستاذ الدكتور طارق جمال لإهدائنا في خميسيَّة الأستاذ الأديب محمد عمر العامودي مجموعة من كتب والده، وعمه، وكان من بينها كتاب الرائد والصحافي والكاتب صالح جمال (من أجل بلدي - الطبعة الثانية 1427هـ -2006م )، وهو يضم مجموعة من المقالات التي كتبها -رحمه الله- في صحيفتي حراء والندوة، منذ ستين عامًا وأكثر، وتذهلك عناوين تلك المقالات المعبِّرة عن طرح جريء، مثل: مع الوزراء، ماذا يريد الشعب من الوزارة الجديدة؟، سياستنا الخارجيَّة، كيف نطوّر مجلس الشورى؟، أنظمتنا وخبراؤنا، الفصل بين السلطات، كُربتان: أجور العقار وأسعار الكهرباء، حدودنا يا صاحب السمو، وغير ذلك.. ممَّا يدلل على مساحة الحرية التي كانت تتمتع بها صحافتنا في تلك الحقبة، وتلك العلاقة الوثيقة التي تربط بين الكاتب والمسؤولين؛ ممَّا يمكن أن يفاخر به جيل الروَّاد من الكتَّاب والصحافيين بما بذلوه لخدمة دينهم، ثم مليكهم، ووطنهم.
صحيفة المدينة 1438/4/26هـ