منارة مكة وانضمام الأمانة لجوقة الرأسماليين

أعلنت أمانة العاصمة المقدسة خلال الأسبوع الماضي عن تمديد مزايدتها على استثمار موقعها الحالي في المعابدة، والذي أطلقت عليه برج منارة مكة، ومنذ إعلانها الأول عن بعض مشاريعها العقارية ومن بينها برج منارة مكة وأنا مندهش من تجاوز أمانة العاصمة المقدسة لنظم الارتفاعات التي تلزم بها المستثمرين.. ودهشتي الأكبر هي غض الطرف عن الأضرار البيئية والاقتصادية التي ستحدثها بعض مشاريعها.

موقع مشروع البرج هو موقع مبنى أمانة العاصمة المقدسة الذي يقع في قلب وادي إبراهيم الذي يضم في ثناياه روافد بئر زمزم المبارك ومجاري وقف عين زبيدة التاريخي الحضاري العظيم، كذلك هو في القلب من جملة من المواضع النبوية وقبور بعض الصحابة رضوان الله عليهم.

بناء برج بالارتفاعات التي أعلنت عنها أمانة العاصمة يقتضي حفر أساسات عميقة جدا ستحدث تخريبا للطبقات الترابية والصخرية للحوض المائي لوادي إبراهيم لا محالة.. وزيادة الارتفاعات يشكل ضغطا كبيرا جدا على الحركة المرورية، ويرفع أعداد الحشود في المنطقة المحيطة المكتظة أصلا بسبب قربها من المسجد الحرام، ووقوعها على أهم الطرق التي تربطه بالمشاعر المقدسة، وهو ما سيخلق عنق زجاجة ومعضلة حركة في منطقة حساسة جدا.

المخطط الشامل الذي تابعه سمو مستشار خادم الحرمين أمير منطقة مكة المكرمة خالد الفيصل، واعتمده الملك عبدالله يرحمه الله قبل عدة سنوات، لا يسمح بمثل هذه الارتفاعات ولا بالحفر بهذه الأعماق، وبالأخص في حوض وادي إبراهيم، والأمانة من أهم الجهات المعنية بتنفيذ موجهات المخطط الشامل، وهي بإعلانها تضرب بالمخطط وموجهاته عرض الحائط.

بل إن الأمانة معنية بشكل مباشر بالحفاظ على البيئة وبتحسين وانسيابية الحركة المرورية، والمفترض أنها الحارس الأمين على المصالح العامة لعموم مدينة مكة المكرمة والمدافع عنها، ومن واجباتها الأساسية الوقوف في وجه من يمس هذه المصالح أو يعرضها للضرر أو للمخاطر. بينما الملاحظ وقوف الأمانة موقف المتفرج طوال العقد الماضي، حيث تم تنفيذ العديد من المشاريع بارتفاعات مخالفة لنظم الأمانة ولنظم حماية البيئة في مكة المكرمة، ويبدو أنها لم تكتف بذلك فبدأت الآن بالانضمام إلى جوقة الرأسماليين المخالفين والمتطاولين في البنيان، والمعتدين على بيئة وجبال مكة ووديانها، الذين لا يرقبون في مكانة مكة وقدسيتها وتاريخها إلاّ ولا ذمة، إذ ليس في حسبانهم إلا تنمية أموالهم وأرباحهم دون مراعاة لأي اعتبارات أخرى.

لقد سبق لي التنبيه مرارا أثناء الدورة الأولى للهيئة العليا لتطوير مكة المكرمة (1422-1425هـ) إلى مخاطر رفع نسبة كثافة السكان حول المسجد الحرام، وللأسف كان بعض المسؤولين في الهيئة يبررون الزيادة ويقارنونها ببعض مدن العالم دون الأخذ في الاعتبار ظروف مكة، وكثافة الحركة في المسجد الحرام ومحيطه، وتوقيتات العبادات المرتبطة به على المستوى اليومي أو الموسمي، وبدأنا الآن نلمس آثار تضاعف كثافة الإسكان حول المسجد الحرام برغم عدم اكتمال المشاريع المحيطة به، إذ باتت أبواب المسجد الحرام تغلق يوميا – بعد أن كانت تغلق بضعة أيام فقط خلال موسمي رمضان والحج - في وجه الحشود المتجهة إليه حماية لهم من مخاطر الازدحام، ولا زالت الرأسمالية مستمرة في غيها لم تجد حتى الآن من يوقفها.

إن تطاول أصحاب المشاريع المحيطة بالمسجد الحرام يشي وكأن لدينا شحا في الأراضي أو في فرص البناء في أماكن أخرى، في حين أن الواقع عكس ذلك، فالأراضي البيضاء التي تملكها أمانة العاصمة المقدسة شاسعة، وكذلك تلك المتاحة للمستثمرين، وبإمكانهم جميعا ووفقا لاقتصاديات السوق إقامة أكثر من مشروع بدلا من المبالغة في ارتفاعات الأبراج والمساهمة في المخالفات والتطاول والإضرار بالبيئة وبالجيران. فهل من يوقف هذا الإضرار بهوية المقدسة مكة وتاريخها ومصالح أهلها وزوّارها؟ أرجو ذلك.

صحيفة مكة | الخميس 19 محرم 1438هـ