بيـت سيـدي | مقال
ما زالت عالقة بذاكرتي صورة بيت سيدي الكبير وهو يجمع العائلة كمسرح أحداث نسجت ببراءة الطفولة التي عشناها بالطول والعرض، لنتباهى بها اليوم أمام الجيل الجديد من العائلة قائلين لهم إن طفولتنا كانت أجمل بكثير من طفولتكم.
لنا في كل زاوية ذكرى شقاوة ما بين وفاق وانسجام وبين شد شعر وخصام، والتي كانت تقابل بين تضجر ستي رحمة الله عليها أحيانا كعادة السيدات في الخوف على ممتلكات البيت من غزو الأطفال الغاشم، وفرح سيدي بلمة أحفاده و»شيطنتهم».
وأغلب الظن أن هذا الأمر متكرر في كثير من العائلات التي عاشت زمن الأسرة الممتدة التي كان يجمعها بيت واحد، وعلى قلب واحد.
كان فيها الخال والدا، والعم مربيا، والكل يتشارك في صناعة تفاصيل البعض، ولا يغيب عن بالي منظر إحدى خالاتي وهي عائدة من السوق لتفتح الأكياس، وتعرض على أخواتها ما اشترته من ثياب بكل حب لتأخذ رأيهن فيها.
كيف استبدلت الأسر النووية المعاصرة هذه العلاقات والروابط العائلية القوية بعلاقات أساسها الشيخ قوقل والعالم الرقمي! فظهرت معها أشكال وألوان من الفتور والعنف والتطرف والهروب وقائمة طويلة من الظواهر التي نتجت عن تحول بيوتنا إلى بوفيهات مفتوحة 24 ساعة تقدم الطعام لأفراد البيت الواحد كل واحد منهم بشكل منفصل!
وفنادق باردة توفر غرف نوم فارهة وأجهزة تكنولوجيا حديثة تجعل كل فرد من العائلة في كوكب منفصل وقائم بذاته.
أصبحت الأسرة لا تجتمع حتى على وجبة واحدة طوال الأسبوع، بحجة صعوبة الحياة وزيادة متطلباتها وضرورة تأمين لقمة العيش الصعبة، وكأنهم قديما لم يكونوا بشرا أيضا ولهم نفس الاحتياجات الفطرية الطبيعية من مأكل وملبس.
هل يعقل أننا أصبحنا نجتمع في المناسبات الرسمية فقط أعياد عزاء وفرح، ولا ننجب إلا طفلين أو ثلاثة لأنهم سيعوضون هذا النقص في عدد الإخوة بالأصدقاء.
فلا داعي لزيادة الأعباء الاقتصادية بالإنجاب ويفترض أن نركز على جودة التعليم ومتطلباته وتقنين التربية وتحدياتها!
وليتنا صدقنا أنفسنا القول وفعلنا ذلك.
أفرزت لنا الحياة الحديثة نظرية تحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه وأطلقوا عليها اسم (جودة الوقت) ليحرص فيها الوالدان على قضاء ساعة أسبوعية على الأقل يتفقدان أبناءهم متفحصين ملامحهم متغلغلين في فكرهم وقد تحولت أبصارهما لعدسة مكبرة تعمل بجهد مضاعف تكشف لهم عن أي تشوه طارئ على نفسيتهم، وعقولهما تصدر أشعة كالماسح الضوئي في محاولة لتلمس أي فكرة دخيلة محملة بفيروس تم إرساله لهم أثناء انشغالهما عنهم.
وبين من يفرط في الدلال المادي لتعويض الفراغ العاطفي لأطفاله، وبين من يترك الزمن ليربي ويصعق بابن عاق أو فتاة هاربة، متسائلا كيف ومتى حصل ذلك؟!
حصل حين غفلنا عن حمل الأمانة وتساهلنا فيها، ومنعنا العم والجد والخال من المشاركة في التربية، حين قيدنا صلاحيات العائلة وكبيرها وأصبحت القرارات فردية عقيمة مقطوعة عن أي مشورة وأصبح كل واحد عقله في رأسه يعرف خلاصه!
يقول د. عبدالوهاب المسيري: فالفرد لم يتزوج بفرد آخر (كما الحال في مجتمعنا الحديث)، وإنما كانت العائلة «تصاهر» العائلة الأخرى.
حصل لأننا لم نرب لزمان غير زماننا.. لم نشاركهم عالمهم نلعب معهم نترك لهم مساحة من الخطأ لنصوبهم لا لنسقط عقد حياتنا عليهم ونعاقبهم، ولم نشاهد مسلسلاتهم ونحاورهم، ووقفنا عاجزين عن مواكبة تسارع تطور التقنية في تفاصيل حياتهم فبنينا بأيدينا أسوارا عالية، حالت دون الحوار وعمق التواصل الذي تحول على قروبات الواتس اب معلنا نهاية زمن دفء البيوت الحقيقي.
بمحاولة جادة وناضجة نحتاج لإعادة الأسرة من طريق الهاوية ونفعل دور كبير العائلة من جديد ونربطهم بجذورهم وأصولهم الممتدة، نغرس في أرواح الجيل الجديد من أطفالنا الحب والرحمة والصلة، نعجن بأجسادهم الصغيرة مفهوم التعايش مع العائلة حتى يكبر معهم هذا المعنى ليشمل كل الأجناس والأعراق ويقبلوا ويتقبلوا كل من حولهم على مبدأ «وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا».
صحيفة مكة 1437/10/6هـ